mercredi 9 mars 2016

كونية النّاموس الديمقراطي تجاه التطرّف الديني



يحمل مفهوم "الديمقراطية" ومشتقاته في الوقت الحاضر أبعادا عميقة تتجاوز الأصل اليوناني للمصطلح. ذلك أن تعبيرات من قبيل "الديمقراطية" و"الأيديولوجية الديمقراطية" و"الدستور الديمقراطي" و"النظام الديمقراطي" و"المجتمع الديمقراطي" و"الحقوق الديمقراطية" كلها تدل على تجاوزنا المفهوم الضيّق أي مفهوم  الديمقراطية كمجرّد نظام حكم. والحقيقة أن مفهوم الديمقراطية يحيل اليوم في آن واحد إلى مبدأ من مبادئ التنظيم السياسي وإلى تصور معين للأخلاقيات.
       يحيل مدلول الديمقراطية في جانبه التنظيمي إلى إقامة نظام سياسي ينبني على أساس الإرادة الجماعيّة و موافقتها ومشاركتها في الشأن السياسي ثمّ على التجديد المنتظم لما يثبت شرعيته وفق نفس النسق الذاتي دون رجوع إلى أيّ سند فوقي. و تبعا لذلك لا يوجد شيء  من القواسم المشتركة بين الديمقراطية الحديثة والديمقراطية القديمة عند اليونان مثلا. فبينما كانت الآلهة وبنو البشر عندهم يتعايشان في جو يسوده نوع من الحميمية الهرمية و إن كانت تنافسية، فقد أصبح اليوم العالم سيد نفسه وبالتالي، لم تعد الأشكال القديمة للحكم القائمة جميعها على أساس القوة أوالغيب أوالتعالي الربّاني سوى مخلفّات من الماضي و رواسبه، رغم أنها لم تغب تماما عن الساحة. وهذا يعني أنّ الشأن السياسي في العالم المعاصر لا يرتبط البتة بالقناعات والمعتقدات، فمسألة المعتقد تكتسي اليوم طابعا فلسفيا يتعلق بوعي كل فرد وليس لديها وقع مباشر على الجانب التشريعي أوالسياسي للدولة. في حين يسعى التطرف الديني ذو النزعة السياسية، مهما كانت أطيافه وبشتى الوسائل، إلى قلب المنحى الذي يسير فيه العالم المعاصر. والتطرف يتمثّل في التشدّد العقائدي و الفكري من جهة، و من جهة أخرى في التشدّد في وسائل العمل إذ نراهم يلجؤون إلى العنف بدلا من الإقناع و يستعملون القتل والتدمير باسم قناعات أخروية. وهذا الأمر يحيلنا إلى الجانب الآخر للديمقراطية الذي يشكّل طرفا نقيضا لما سميناه بـ"التطرف الديني ذو الطابع السياسي".
          فبالإضافة إلى معناها التنظيمي تعد الديمقراطية قيمة أخلاقية من أخلاقيات الحياة الاجتماعية والسياسية إذ لم نعد نعتبرها فقط إجراء بسيطا لانتخاب الحكام، ولكننّا أصبحنا نطالب بأسرة ديمقراطية ومدرسة ديمقراطية وجامعة ديمقراطية وثقافة ديمقراطية، ممّا أدّى إلى تبنينا لقيم خاصة مبنية على استقلالية الفرد والتمتع بحقوق الإنسان الأساسية. وعليه، فقد استبدلنا، في الميدان السياسي، المقدّس الإلهي بالمقدّس الإنساني و هكذا أصبحت الحقوق حجر زاوية المجتمع السياسي. وهذا ينطبق على الحق في الحياة و الأمان الشخصي والصحة والمواطنة وحرية الفكر والضمير والمعتقد الديني أو الفلسفي وحرية التعبير من خلال حرية التجمع العام والمظاهرات السلمية وحرية الصحافة والإعلام. وترتكز أخلاقيات الممارسة الديمقراطية على الاستقلالية والحرية والمسؤولية الفردية في حين ينبني التطرف الديني على عدم اعتراف الذاتيّة والخضوع الطوعي أو القسري والتبعية الفكرية. 
غير أن تحليل مفهوم ما و التفقّه في دلائله و معانيه لا يكفي لمنحه الشرعية، أي لجعله مقبولا لدى الذين لا يعتبرونه معتقدا و لا يسلّمون بصحّته. فعلى أي أساس يمكننا التأمّل في الديمقراطية على أنها النظام السياسي والاجتماعي الأنسب للإنسان؟ وعلى أي أساس يتم تفضيل الديمقراطية على الديكتاتورية أو على الأرستقراطية أو الأوليغارشية أو الملكية ذات الحق الإلهي أو النظام الثيوقراطي؟

        كيف يمكننا تخليص الديمقراطية من النسبوية التي تريد المذاهب الدينية المتطرفة أو المذاهب التراثيّة أن تأسّرها فيها أو حتّى أن تدحضها و كيف يمكن تحريرها من ربقة المذاهب الثقافوية التي تربطها حصرا بحضارات أو ثقافات خاصة، نافية عنها الكونية؟
        ألم تستمعوا إلى أعداء الديمقراطية المنتمين  إلى كافة أشكال الفلسفات الكليانيّة سواء اكتست طابعا علمانيا كالفاشية أو القومية المتطرفة أو الشيوعية أم اكتست طابعا دينيا كالأصولية السياسية الإيمانيّة يستنقصونها جرّاء أصلها الغربي أو يستنقصون أنصارها من غير الغربيين على أساس استيلابهم وتبعيّتهم لثقافة أجنبيّة المأتى لا صلة لها بالتراث؟ فيصبح تبني الفلسفة الديمقراطية عندهم إنكارا للذات وتفضيلا للفكر والثقافة الغربيين. ومن هذا المنظار، يرون في الشّخص الدّيمقراطي غير الغربي أوصاف الاغتراب و حتّى  العار. وانطلاقا من وجهة النظر هذه وباسم الخصوصيات الدينية والثقافية والحضارية لكل شعب، سيقوم منكرو الديمقراطية باستنباط نظريات ثقافوية، أحدهم ينكرها كليا و آخر يضع لها نظرية اشتراكية وثالث يحدث لها مفهوما ليبراليا. وعلى هذا النسق ، و في نهاية المطاف، سيكون لدينا تصور إفريقي للدّيمقراطيّة و تصور إسلامي ثمّ تصور اشتراكي فتصور بوذي، و جميع هذه المذاهب، في حقيقتها، تعدّ رفضا مقنّعا لمفهوم الديمقراطية.
فإذا ما أردنا أن نبني هذا المفهوم على أساس متين، فإنّنا لا نملك اختيارا آخر سوى إسناده إلى الإنسان: حقيقتنا الوجودية الوحيدة. ولكن للقيام بذلك، يجب علينا الانطلاق من أرضيّة كونية لا ريب فيها، أو بالأحرى من مبدأ كوني تشترك فيه البشرية جمعاء.


ألفصل الأوّل - جذور النّاموس الديمقراطي

لا يعني استكشاف هذا المبدأ الكوني أنّه بوسعنا أن نستجلي واقعا ملموسا مشتركا بين البشرية جمعاء ندرجه في ظلّ قانون طبيعي. فمن الغرور، بالنسبة للإنسان، أن نفترض له إطارا كونيا ندمجه فيه. فالإنسان يوجد دائما في مكان ما وفي ظرف معيّن وفي وضعيّة إنسانيّة لها خاصيّاتها. وتشكل الثقافة والسياسة عنصرين هامين لتمييز وضع إنساني عن الآخر، ممّا يؤدّي حتما إلى التفريق بين أنواع البشر التي تعيش على وجه هذه البسيطة، و إلّا سوف نقع في الجوهرانيّة و هي منهاج  تدحضه جميع علوم الإنسان؟ فماذا تعني الكونية بالنسبة للإنسان؟
   على هذا المستوى، يجب التحلي بالحكمة والحذر وكذالك بالتواضع، و إلا سنقع في فخّ أقنمة بعض الأوضاع الإنسانية، أي سيتم جعل بعض الأشكال الثقافية أو أشكال التنظيم السياسي المعيار الأوحد للإنسانية جمعاء، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتهاج منهج مترفّع وتعسفي، مناهض للمنهاج الفلسفي من جهة و للمنهاج العلمي من جهة أخرى. لذا فالتساؤل حول كونية النّاموس الديمقراطي  لا يخلو من المغامرة و المخاطرة قد تؤول بنا إلى طريق منسدّ.
       فهل بإمكاننا، للخروج من مأزق النسبوية، البحث عن كونية في الإنسان، وحتّى إن لم تكن بالفعل فقد تكون بالقوّة؟ بدوره، يبدو هذا الطموح المتواضع صعب المنال . لنأخذ لذلك مثالا. عندما قال جان جاك روسو في بداية العقد الاجتماعي: "يولد الإنسان حرا فيصبح مكبّلا بلأغلال في كل مكان"، يبدو أنه يقدم لنا مفتاحا تأويليا كونيّا للحياة البشرية و هو أساس نظام" العقد الاجتماعي". إلّا أن قولة "الإنسان يولد حرا" ليست في منأى عن التمحيص والتشكيك و يمكن إيجاد نقيضها بسهولة،لأنّنا نعلم أن الإنسان يولد عائلا على غيره متّكلا عليه، لا ينمو دون ذلك. فليس الإنسان بحرّ، حيث يتعلق الأمر في بداية حياته بضرورة الحاجة الغذائية، تتحول إلى ضرورة الإدماج والتعلّق بمجتمعه على المستوى اللغوي والإيمائي والسلوكي والثقافي إلى أن تصبح ضرورة سياسية في آخر المطاف. وهذه العلاقة هي التي تمكّننا من الوقوف والمشي والتواصل. لقد ولد الإنسان مقيّدا، فأي حرية في كل هذا ؟
      وما قلناه في شأن روسو ينطبق على مفكرين من أوساط ثقافية أخرى كابن خلدون والغزالي و هما يبحثان في مسألة الطبيعة الإنسانية. حيث ينطلق ابن خلدون أو الغزالي لتفسير حياة الدول من نشأنها إلى سقوطها من نقطة تبدو بديهية وتتجلّى في أن الإنسان مدني بالطبع، لكنه وبطبعه أيضا محبّ لذاته حبا يصل إلى التسلّط و العدوان على الآخرين. ويتمثل حب الذات هذا في غرائز الهيمنة والتملك والعدوانية والدفاع عن  النفس، يسمّيها الغزالي بالبهيميّة، و السبعيّة، و الشيطنيّة و العبوديّة. و فعلا فإنّ كل هذه التوصيفات حقيقية، غير أنها ليست سوى جزء من الحقيقة. فالحقيقة أوسع من ذلك بكثير، بل قد تكون أكثر تفاؤلا ومهما يكن من أمر فإنها أكثر تضاربا. وكما نرى، فإن أية فكرة حول الطبيعة الإنسانية تصطدم بتحديات كبيرة. ولهذا السبب، فإننا نجد أنفسنا من جديد أمام نقطة البداية: كيف نستطيع بناء مبدأ لحياة الإنسان، مبدإ يُفترض أنه كوني، يمكّننا من استنباط كونيّة النّاموس الدّيمقراطي  ؟
   وللوصول إلى هذا الهدف يجب علينا الإقرار بأنه لا يمكن أن ننطلق في تأمّلنا، سوى من الإنسان نفسه في بشريّته الدنيوية ولا من قوة، أو غيب أو فاعل أو عقل خلّاق يوجد في المجهول، فوق قدرة البشر، ينتظره في المنعطف الأخير من وجوده الدنيوي للفصل، فيما إذا كان الإنسان يستحقّ السعادة الأبدية في الحياة الاخرى. فيجب أن نختار الأرضيّة الفلسفية التي توخّاها جان جاك روسو والذي عبّر عنها في نهاية "خطاب حول أصل التفاوت بين الناس وأساسه "على النحو الآتي:
      "أنا أتكلم عن الإنسان و المسألة التي أبحث فيها تفيدني بأنني سأكلم الناس...". كما تتّسم الفقرة الأخيرة من الخطاب بأهمية كبرى: "وقد حاولت أن أعرض أصل التفاوت وتقدّمه، وقيام المجتمعات السياسية و انحرافها، بالمقدار الذي يمكن أن تستنبط هذه الأمور من طبيعة الإنسان و بمجرّد أنوار العقل، بقطع النظر عن العقائد المقدّسة التي تمنح للسلطة ذات السيادة تزكيّة الشرع الإلهي." ولا يمثّل هذا الافتراض المعرفي إنكارا لوجود الله أو الآخرة. وإنما يقدّم مبدأ يتمّ فيه الانطلاق من الإنسان إلى الله، من خلال اختيار حرّ مبني على قناعة مستقلة ومسؤولة، ولا من خلال اختيار عمودي مفروض من قبل ممثلي الله في الأرض. و إذا اشتغلنا بمعرفة الله، فلا بدّ أن يكون  ذلك على عاتق الإنسان وحده، شريطة أن يكون هذا الاشتغال مبنيا على إدراك مستقل وحرّ ومتحرّر من كل الضغوطات التي يمارسها المجتمع على أعضائه. وبعبارة أخرى، ليس الاختيار المعرفي الديمقراطي بالضرورة اختيارا لا-إيمانيّا، بل هو اختيار مسؤول يعتمد الثقة في البشر والتعددية وقانون نسبيّة العالم. ولهذا السبب، لا يتصوّر المؤمن الديمقراطي العالم الذي يحيط به إلا من منظور الأخوّة الكونية والتعايش بين الأديان والثقافات والحضارات. وعليه، فإن المؤمن الديمقراطي لا يمكن أن يخلط بين التّشريع والسياسة من جهة والإيمان من جهة أخرى.  حيث تبقى المجالات الثلاث منفصلة تماما في قناعته الخاصة كما هي منفصلة على مستوى  التعبير عن مواطنته. و في بيان العلاقة بين حقوق الإله و حقوق الإنسان،  وجد ابن رشد في القرن الثاني عشر م (السّادس ه) حلّا جيّدا لهذه المسألة العويصة في المجتمعات ذات الدّيانات التوحيدية في كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. وقد اتّخذ جمع من المفكرين الأوروبيين، ليس فقط من ذوي النزعة الرشديّة[1] ، من  توماس الإكويني إلى فلاسفة الأنوار، مرورا  بدانتي أليغيايري أو بيكو دي لا ميراندولا، اتّخذ هؤلاء الحلّ الرشدي الذي أدّى في نهاية المطاف إلى "الدولتيّة" التي توخّاها توماس هوبز والتي فتحت بدورها المجال لعلمنة القانون والدولة معا. وقد أصبحت اليوم هذه المواجهة بين العلمنة والنظرة الإيمانيّة المتطرّفة قضية ساخنة وشرسة، عنيفة وفتّاكة، حيث يؤدي التطرّف الإيماني إلى الإرهاب  باسم الدّين. و هذا الأمر يؤدّي بنا حتما إلى طرح سؤال مهم: كيف يمكننا، دون أللجوء إلى برهان منغلق، إبراز التفوّق الأخلاقي للأنسيّة الديمقراطية والحقوق المترتّبة عليها والتي تسلّم بأن الإنسان، وحريته وازدهاره هي الأهداف العليا التي تصبو إليها المدينة السياسية، بغضّ النّظر عن الغايات الأعلى منها الأخرويّة؟ وأكتفي هنا بطرح السؤال.
    و بما أننا طرحنا المسلّمة التي تقتضي في الميدان السياسي النظر إلى الإنسان في إنسانيته الدنيوية، فإنه يبدو لي أن المبدأ الفلسفي الوحيد الذي قد يشكّل أساسا كونيا هو مبدأ اللامعاناة الذي يعني النفور الفطري و التلقائي من الألم و المأساة، وهو مبدأ يتحكّم في حياة الإنسان منذ بدايتها، ويمثّل حقيقة يعيشها الإنسان، ويمكن لنا أن نشاهدها من خلال التجربة. فمنذ تشكّل الجنين داخل الرحم إلى الموت، يفرّ الإنسان ضرورة من الألم والمعاناة بحكم الغريزة أو الطبيعة، وقبل أيّ تمييز أو إدراك عقلي. ثمّ يقوم الإنسان في مرحلة ثانيّة عن طريق العقل والذكاء والتصوّر المستقبلي المخطط لحياته الاجتماعية المنظّمة، بابتكار جميع الوسائل الكفيلة بأن تجنّبه أي مواجهة مع المعاناة مهما كان نوعها. ويضرب مبدأ اللامعاناة في أعماق الإنسان أكثر من نزعات أخرى راسخة فيه، مثل سعيه إلى السعادة أو المصلحة أو المتعة. حيث تستدعي هذه الأخيرة الوعي و التمييز والمعرفة. ناهيك أنّ الإنسان الذي لا يملك الوعي أو الفطنة مثل المجنون أو النائم أو فاقد الوعي، ليس بإمكانه أن يصبو إلى السعادة على أساس إرادة مستقلة ، بيد أنه سيتعامل مع الألم بالفرار منه بتلقائية لا استثناء فيها. فاستنادا إلى التجربة الإنسانية عموما، يمكننا القول قطعا بأن الإنسان مهيأ بطبيعته للهروب من المعاناة ورفضها أيا كان نوعها. و فعلا ، يميل الإنسان عموما، في بعده المادي أو الجسدي إلى حماية حياته والتحكم بقدر المستطاع في مجراها الزمني إلى أبعد مدى ممكن، من خلال الاهتمام بجسده وتغذيته وصحته. وبالتالي، يشكل الحق في الحياة وسعة العيش والصحة والسلامة البدنية المبدأ الأول لفلسفة الأخلاق الكونية. غير أن مبدأ اللامعاناة لا يقف عند البعد الجسدي أو المادي للإنسان، بل يمتدّ إلى الأبعاد الروحانية والاجتماعية لهذا الأخير.
  فالإنسان في جوهره كائن مفكّر ومميّز وناطق أو قد أصبح كذلك بمقتضى تطوّره. وقد قدّم لنا ابن طفيل، الأندلسي الذي عاصر ابن رشد، في مؤلفه الفلسفي "حي بن يقظان" وصفا دقيقا لذاك الطفل المهجور في جزيرة ترعرع بين ثديي غزالة مرضعة والذي تمكّن بفضل قدرته الوجودية الفطرية من الوصول إلى معارف الكائن المتمدّن. فللإنسان عقلانية يعبّر عنها باللغة والمنطق وتندرج هذه العقلانية في طبيعته الذهنيّة، أي في كينونته العليا. وبما أنه كائن مفكّر ومميّز وناطق، فإنّ لديه دافعا للتساؤل الباعث للشك، و هذا شأن الفيلسوف، و هو الباحث عن الأفضل وهذا شأن الأخلاقي، و هو الساعي وراء التّفهم، و هذا شأن العالم،  و هو صاحب الذكاء الخلّاق المتخيّل المبدع، مستكشف اللامرئي، وهذا شأن الفنان والرسام والموسيقي والشاعر. وترتيبا عليه، فأي محاولة لعرقلة حرية التفكير أو التمييز أو التعبير عن رأيه تدخل في باب المعاناة و الألم ، لكونها تمنعه من اكتمال شخصيّته من خلال تنميّة قوّته الوجودية والتمكّن من تحقيق ما يريد وما يجب عليه أن يكون. و كما يؤكده لنا إراسموس أو بيكو ديلا ميراندولا، لا يصبح الإنسان إنسانا إلا من خلال الارتقاء من حالته الشهوانية بواسطة الفكر والإدراك. فبحكم طبيعته الإنسانية، يميل الإنسان بالضرورة الفطريّة إلى رفض أي تدخل في حرية الضمير والفكر والتمييز والمعتقد والإحساس الخاصة به، فضلا عن أي تدخل في حريته في التعبير سواء باللغة أو الفن أو التقنيات. و خلاصة القول إنّ مبدأ اللامعاناة يفضي حتما إلى الحرية، بما فيها حرية قبول المعاناة بالتضحيّة في سبيل قضيّة ساميّة و هي مفارقة في مفهوم الحرية. فعلى خلاف مبدأ اللامعاناة، ليست الحرية نتيجة الوعي الحسّي الاوّل، بل هي اكتشاف، ووعي مركّب، شأنها شأن السعادة تتشكل بطريقة غير مباشرة.
    ◄وأخيرا، يتجلى البّعد الثالث للإنسان في التجمع في مجموعات بشريّة. وقد عبّر اليونان عن هذه الحقيقة حين قالوا: "الإنسان كائن سياسي". أما العرب فقد عبّروا عن هذا الأمر بقولهم: "الإنسان مدني بالطبع". ويعني ذلك، أنّ الإنسان كبشر يميل إلى المساهمة في الحياة المدنية والسياسية لمجموعته سواء أكانت قبيلة أو وطنا أو جمهورية  أو مملكة، وسواء من خلال مناقشة شؤون المدينة أو الترشح لتحمل المسؤوليات السياسية أو اختياره، عن طريق الانتخابات أو أي شكل من أشكال التمثيل، من  يتكلفون بهذه المسؤولية مع السهر على حفظ التوازن بين نظام الجماعة والحرية الفردية.
   ◄وينبغي أن نضيف أن الإنسان في مجتمعه لا يقبل الظلم والتمييز وعدم المساواة. و لذلك، يكفينا أن نعتبر مجتمع الأطفال، بألعابه وخصوماته وشكاواه المتواصلة أمام محكمة الأولياء الكبار، عند حدوث خرق للمساواة. فالبشر لم يولدوا أحرارا بل هم توّاقون إلى الحريّة، و لكنّهم يولدون سواسية ويريدون أن يظلوا كذلك. وأخيرا، فإن الإنسان بطبيعته الاجتماعية، كما يقول هيغل، يحرّكه بالأساس الميل الفطري للاعتراف بذاته من قبل الآخرين والتحّصل على ذلك بكسب المجد أو التفضيل الاجتماعي. وفي سبيل ذلك، قد يفتدي الإنسان بنفسه مواجها المعاناة أو الموت، دون مهابة، لتحقيق غايته الأسمى. غير أن هذه التضحية ليست رفضا لمبدأ اللامعاناة. بل هي إقرار له، لاعتبار أنّها تشكّل انتصار طبيعتنا الإنسانية على طبيعتنا الحيوانية و لوعينا الذاتي الحر على وعينا الذاتي المستلب وللعقل المفكّر على الجسد المادي . ويمكننا، على افتراض بقاء الأمور على حالها، أن نسحب هذا المنطق على المنكّلين أجسادهم طلبا للغفران أو المنتحرين. فالمعاناة، في سيكولوجية التائب أو من يجلّد ذاته (مثل المطبّرين عند الشيعة)، تهدف في الحقيقة إلى توجيه القدر من أجل تحقيق عدم المعاناة الأبدية المبتغاة، لأنها أمر موعود، أمّا بالنسبة للمنتحر، اليائس من العيش، فمعاناة الانتحار هي أخفّ الضررين بين مواصلة عيش لا يطاق و موت تزيله.   
    ◄صحيح أن الاستيلاب و "العبودية الطوعية" الّلتين أفرزتهما العادة والانسياق الأعمى، كما يقول إتيان دولابواسي يجعلان المرء يقبل أحيانا، بالإكراه الواعي أو اللاواعي ، ما ليس مقبولا في طبعه، مثل العبودية والرق والتمييز العنصري والتمييز بين الجنسين والإكراهات الدينية، وهي انحرافات نجدها في السلوكيات وراسخة في العادات والتقاليد، إلى  أن انتهي بها الأمر إلى اعتبارها مقبولة بل وحتى طبيعية من قبل الجميع بما فيهم ضحاياها. غير أن الإنسان وبفعل الثورات السياسية والفلسفية والدينية والعلمية، قد نجح تدريجيا في كسر هذا القيد الذي يكبل عقله ويبقيه حبيس التوافق الاجتماعي. فالثورة تشكل بلا شك تقدما باتجاه إنسانية محررة من المعاناة والاستعباد. فتجربة المعاناة و المأساة و الألم و البأس و الحزن  يتمخّض عنها كلّها ولادة الحرية أو ازدياد طوق الإنسان إليها. و الدليل على ذلك موجود في عبارات ميثاق الأمم المتّحدة :" نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف...". أما بالنسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهو يعتبر أنّ "...تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجيّة آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتّع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة...". نضيف أنّ الحق في السلامة البدنية يرمي إلى حماية الإنسان من "التألم أو المعاناة الشديدة البدنية أو العقلية"، استنادا إلى اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللإنسانية أو المهينة. فمبدأ اللامعاناة يقع في صلب نص القانون الجنائي الدولي و نظام روما الأساسي الذي يشير إلى أنه "...خلال هذا القرن، ذهب الملايين من الأطفال والنساء والرجال ضحايا الفظائع التي تفوق الخيال وتصدم بعمق الضمير الإنساني ". و يوجد أيضا مبدأ اللامعاناة في مركز اهتمام فقه قضاء جميع الهيآت القضائية أو شبه القضائية لحماية حقوق الإنسان.                                 
        إن مبدأ اللامعاناة ليس فقط الأساس الكوني للناموس الديمقراطي، ولكنّه أيضا الدافع الأساسي لروح العدالة. وتتجلى روح العدالة في رفض سلطان الألم والاستيلاء والإذلال. ويكمن مصدر روح العدالة في كون الإنسان إذا تألّم بنفسه أو ذاق البؤس والإذلال، فإنّه يدرك ذلك لغيره و كما يرفضه لنفسه يرفضه لغيره أيضا، فتصبح تجربتنا المتبادلة و المشتركة للمعاناة الأصل الأوّل و الأساس الذي يمكننا أن نبني عليه فلسفة الإنسان، رغم أنّه لا يشكّل مبدأ نظريّا قبل تجريبي، و لكنّه نابع من الخبرة المتبادلة و التجربة المشتركة. و على هذا الأساس يمكننا وضع القاعدة الأخلاقية المطلقة: "لا تسئ للغيرإذا كنت تريد أن لا يساء إليك"                         .                                                                                                        وبناء على هذا المبدإ الكوني، يمكن أن تتموقع الديمقراطية فوق الخصوصيات الثقافية، باعتبارها قائمة على مبدإ اللامعاناة. فالفكرة الديمقراطية مقوّم من مقوّمات الإنسان. وهي تشكّل جزءا من طبيعته النفسية والجسدية. فالإنسان ولد ليكون ديمقراطيا بناء على المبدأ الكوني و هو  مبدأ اللامعاناة.
     ◄و وفق هذا التصوّر، لا يجوز أن نفهم نشأة مفهوم الديمقراطية من خلال تاريخ الأفكار السياسية. فهذا التاريخ يتيح لنا فرصة التعرّف على مكتشفي النّظريّة الديمقراطية ومنظّرّيها، خصوصا المفكرين ال أوربيين في عصر الأنوار الذين دشّنوا استخدام هذا المفهوم و أشرفوا على نشأته. غير أن النشأة التاريخية لمفهوم نظري لا تشكّل سوى طريقة تعبير خاصة في التاريخ. ولإدراك المفهوم، على امتدادته وبعمقه الفلسفي، ينبغي أن نتجاوز التاريخ الواقعي للعكوف على الإنسان في ذاته.                                                                                                                          
       ◄ وحتّى إذا افترضنا أن طبيعة هذا الإنسان هي ذاتها نتاج لتطوّر عبر الزمن، وفقا لنظرية داروين، أو حتّى إذا ما أنكرت الطبيعة جملة وتفصيلا، لسبب انصهارها التام في الواقع الذي له حياة و دينامكيّة  ذاتيّة، أي في سياق الحياة الخاصة لكل إنسان، ممّا يشكّك في فكرة طبيعة الإنسان ذاتها، فلنعتبر الإنسان هو النتيجة النهائية لهذا التطوّر أو ذاك الانصهار في المكان والزمان في انتظار شيء غير معروف أو غير متوقع يمكن أن يحدث في وقت لاحق.
        فالنتيجة هي التالية و لو اعتبرناها وقتيّة. يحبّ الإنسان الحياة وبالتّالي فهو يمتلك حقا مقدّسا في الحياة وفي السلامة البدنية. وهو كائن مفكّر ومدرك فيحق له التمتع بالحرية الكاملة في التفكير والتقدير. وهو كائن ناطق، وبالتالي فله الحق في حرية كاملة في التعبير. وهو كائن سياسي، فله الحق في مقاومة التّعسّف وفي الانتخاب وفي المشاركة مع الآخرين في الشؤون العامة. على أن الآليات والإجراءات الدستورية المخصصة لتنزيل هذه الحقوق أو حمايتها يعد أمرا ثانويا. فالنظام الانتخابي وطرق الاقتراع و الأنظمة السياسية والفصل بين السلط والمراقبة القضائية للمشرع والإدارة والمراقبة البرلمانية لعمل الحكومة ليست سوى أشكالا ممكنة للنّاموس الديمقراطي، لكن لا ينبغي النظر إليها وكأنها مسلمات جامدة لا يمكن مناقشتها.
       وكما يؤكد مجلس حقوق الإنسان في قراره 28/14 الذي تم اعتماده في الدورة 28 بتاريخ 26 مارس 2015: "..على الرغم من امتلاك الديمقراطيات لسمات مشتركة، إلا أنه لا يوجد نموذج واحد للديمقراطية ...فالديمقراطية ليست حكرا لبلد أو لمنطقة ... " ومن هنا، يمكن لكل أمة ولكل ثقافة وكل تاريخ أن يقدّم مساهمة من اجتهاده الخاص وعبقريّته لبناء الناموس الديمقراطي. وتشكل موافقة الدول عن طريق تطابق قوانينها الدستورية مصدر المبادئ العامة للقانون الدستوري الدولي في خدمة الناموس الديمقراطي. وقد أقيم تدويل القانون الدستوري الديمقراطي الذي نشاهده اليوم، من نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى الثورات العربية ومرورا بسقوط جدار برلين، على أنقاض الأنظمة الاستبدادية. فكما يرى كلسان، لا وجود لغير هذين الاثنين الديمقراطية في مواجهة الأوتوقراتيّة.
        وكما أشرنا إلى ذلك، فالناموس الديمقراطي يشمل المبادئ والقواعد القانونية التي تهدف إلى تطبيق قيم المجتمع الديمقراطي. وحيث أقول ذلك، فإنّني أدرك جيّدا الاختلافات المحتملة في بعض مكوّنات المجتمع الديمقراطي، طالما يمكن أن نختلف في مؤسساتها وأدوات التنظيم كالدستور والانتخابات والأسرة والتربية والعمل والملكية والدين. غير أن  عقلا نزيها يفكّر دون تحيّز لا يستطيع أن يرفض النّاموس الديمقراطي، إلا إذا تجاهل الإنسان. فالنّاموس الديمقراطي لا يشكل قيدا من القوانين المؤسساتية والإجرائية أو التقنية، ولكنه مجموعة من المبادئ الكونية التي يجب أن تلهم وتسيّر و تراقب المؤسسات و الإجراءات والتقنيات الموضوعة لتطبيقها. وقد أتينا آنفا على ذكر هذه المبادئ بشكل مستفيض، بالنسبة للكائن البشري وللكائن المفكر وللكائن الناطق وللكائن السياسي.   
          فإذا قبلنا تلكم المبادئ تفتح أبواب جميع القدرات الانسانيّة. لأنّه بوسع المجتمع الديمقراطي أن يحتضن  جميع الإمكانيات وجميع الطاقات وأي إبداع فكري أو روحاني للكائن البشري. ولهذا السبب، صارت المجتمعات الديمقراطية هي الأكثر إنتاجا على مستوى التطور العلمي والفني والثقافي.
      ولا يمكن أن ننسب الحق الديمقراطي، كما هو معبّر عنه في القانون الدستوري الدولي أو الإعلان  العالمي لحقوق الإنسان أوعهد الحقوق المدنية والسياسية أو المعاهدة الأوربية لحقوق الإنسان أو الإعلان الإفريقي المتعلق بالديمقراطية و الحوكمة الجيّدة والانتخابات، إلى ثقافة بعينها سواء كانت أوربية أو إفريقية أو دينية أو علمانية أو حداثيّة أو  تراثيّة. فهو جزء من الكسب الحضاري والطبيعي المشترك، لأنّه جزء من الكائن البشري. لقد كانت هذه الحقوق مسجّلة بالقوّة في الإمكانية الوجودية للكائن البدائي ابتداء من فترة لوسي وأرضي وسلام. وما كان علينا إلا أن نبحث عنها ونكتشف أغوارها و أن نغزوها. وهذا هو نتاج الحضارة التي لا فارق بدونها بين الحيوان والإنسان.

الفصل الثّاني - تفوّق  النّاموس  الديمقراطي

وأعود من جديد إلى السؤال المطروح سابقا. "كيف يمكننا، دون أللجوء إلى برهان منغلق، إبراز التفوّق الأخلاقي للأنسيّة الديمقراطية والحقوق المترتّبة عليها والتي تسلّم بأن الإنسان، وحريته وازدهاره هي الأهداف العليا التي تصبو إليها المدينة السياسية، بغضّ  النّظر عن الغايات الأعلى منها الأخرويّة ؟ " كيف يمكن البرهنة على تفوّق الناموس الديمقراطي إزاء حجج أعدائه الأساسيين وخاصة ممثلي التطرف الديني في الحقل السياسي.
إننا ندرك تماما الصعوبات التي تعترض هذه البرهنة. فنحن نعرف أن لا أحد في الواقع يستطيع أن يبرهن تفوّق أي اختيار كيفما كان في مجال الفنّ أو الذوق أو القيم الأخلاقية أو القانون أو الدين. تخيلوا في سبيل ذلك حوارا بين ديمقراطي وثيوقراطي، أي متطرف راديكالي سياسيا. للديمقراطي الذي يدعي مشروعيّة استقلالية الفكر السياسي على أساس كونيّة الطبع الإنساني، يجيب الثيوقراطي  بأن هذا التفكير مبني كليا على خطأ فظيع من منشئه. فبالنسبة للثيوقراطي لا يمكن تصوّر الخلق بدون خالق والإنسان بدون العليم الأعلى، والإنسان كالبشر لا يمثّل شيئا إن لم يوصل بما وراء الحياة الدنيا. غير أنه للظفر بهذه الحياة الماورائيّة التي تمثل الحياة الحقيقية، فإنه يجب تنفيذ كل أوامر الخالق ولاسيما الأحكام المتعلّقة بالحقوق والواجبات التي يحدّدها الشّارع للإنسان البشري. فهذه الأمور تمثّل بالنسبة له جوهر الحياة وكنهها. حيث إنه من المنظور الديني المطلق، لا مجال لنظرية ديمقراطية للقانون. لأنّ هذه الأخيرة تنطلق من الإنسان وترجع إليه دائما. فالثيوقراطية، وهي إدماج الدين في السياسة والتّشريع، تنطلق من الله من أجل العودة الأبدية إليه في الأخراويات و الدّنياويّات دون استثناء. ولكون هاتين المُسَلّمتين الثيوقراطية و الديمقراطية غير قابلتين للبرهنة، فإننا لا نرى كيف يمكن أن نصالح وجهتي نظر قائمتين إمّا على اختيار دون برهان و إمّا على إيمان محض، قد تكونان كلاهما و على حدّ سواء صائبتين أو مخطئتين. هذا هو على الأقل ظاهر الأمور.
     ولكن ظاهر الأمور لا يتعدّى التحليل السطحي، و بالفعل، لو دفعنا بالتحليل قدما، نستطيع بالرغم من كل شيء استخلاص أن النظرية الديمقراطية تحظى معا بتفوّق نظري و تفوق عملي.
       فعلى المستوى النظري وكما أشرنا إليه سابقا، ينبني الناموس الديمقراطي على مبدأ اللامعاناة وهو مبدأ قابل للبرهنة التجريبية. فهو بالتالي مثبّت وليس بتائه في علوم الغيب و التكهّن. يحمي النّاموس الديمقراطي، و هو ملك التّبادل الحرّ والصداقة، ومعدّل التباغض و العدوان، يحمي الفرد من معاناة الإقصاء والاستعباد والاضطهاد والاغتراب. ويستطيع أي شخص أن يشهد على ذلك، و هو الواعي بما في نفسه و بالاقتران بما في نفوس أشباهه من العباد، المشتركين معه في  العمل  و الحياة العامة كفاعلين مؤثّرين و مفعولين متأثّرين و شاهدين. و من هنا  تبرز  قيمة مبدئنا، إذ يمكن إثباته بمجرد شهادة واحدة  يدلى بها جمعا أو فرادى. صحيح أن الأمر يتعلق بواقع من وقائع الطبيعة و أنّه لا يجوز  تقرير القيم و المعايير الأخلاقيّة انطلاقا من الوقائع، كما أكّده الفيلسوف البريطاني دافيد هيوم، إلا أن واقع الطبيعة الذي نناقشه الآن إنّما هو  ناطق و معبّر أخلاقيا و صالح لأن يكون أصلا لأوّل مبدإ أخلاقي، لأنّه كوني ومطلق وضروري. وانطلاقا من هذا الواقع الكوني نستطيع استخلاص مجموعة من الواجبات.
     إن النظريات غير الديمقراطية المتعلقة بالسلطة والحقّ والتشريع تنبني إما على سرّ السمو الإلهي أو روح الأجداد الأوّلين أو غيرها من الأفكار الغيبيّة، بمعنى عالم أعلى يتجاوز هذا العالم الأدنى - و مثل ذلك في أسطورة الفرعون ابن الإله رع، والإمبراطور الصيني ابن السماء ، و أغسطس الروماني ابن أبولو، والخليفة من آل البيت الشريف والنّسب القرشي النّبوي المقدّس، والديكتاتور المُجسّد لروح الشعب - وإما على حقيقة السيطرة المادية أو الأخلاقية أو الفكرية، كسيطرة المُنجِب على المنجَب أو الراعي على الرعيّة  أو المستعمِر على المُسْتَعمَر أو الفيلسوف الرّئيس الفذّ على العوام و  أو العرق الصفي على العرق الدّني  أو السيد على العبد. وللأسف يندرج كلّ ذلك إما في باب التكهّن والرهان والتنبئ وإمّا في ظلّ الافتراء و التدليس والكذب، إذ تفتقر هذه الآراء إلى أي برهنة عقلية، إضافة إلى الدمار و الآلام التي سببتها و ما زالت تسببها للإنسانية، فائدتها الوحيدة و هي فائدة سلبيّة، أنّها تكشف مبدأ اللامعاناة فتجعل الخلق يعي به أكثر فأكثر و يستنجد به.
     ◄وعلى المستوى التطبيقي، يعتبر الناموس الديمقراطي هو الوحيد الذي يتيح تعايشا سلميا للاختلافات والتنوّعات. فهو يفتح سبل التعايش لكل المتباغضين و المتكارهين، و هذه هي غايته الأساسية. ويحظى بامتياز لا نظير له، إذ أنّه لا يقف فحسب عند التسامح إزاء جميع المذاهب والممارسات السياسية والدينية والأخلاقية، بل هو يقدم حتّى لأعدائه إمكانية التعبير والعمل، وهنا يكمن تفوّقه، ومن هنا أيضا يأتي المصدر الرئيسي لهشاشته. فأمام استحالة اجبارنا على حبّ بعضنا البعض، يجبرنا على التسامح فيما بيننا. ولا ينبع سلطانه من الأحاسيس و العواطف بل من العقل ومنطق التعايش، غير أنه ليس منطق القلب بل منطق الأفكار. ولذلك يؤكد يورغن هابرماس بكيفية دقيقة أن القانون الديمقراطي 1 "...له فضائل إنسانية وحضارية". وتعتبر هذه الفضيلة الإنسانية والحضارية وهذا التسامح والانفتاح الدائم في النقاش، سمة خاصة بالديمقراطية.
     أمّا النظريات الأخرى للسلطة والقانون، فإنّها لا تقيم وزنا بنفس الدرجة للإنسان ولحريته. وجدير بالذكر ما جاء في خطاب "المفتش الأكبر" في قصّة " الإخوة كارامازوف" للمؤلف الروّسي دستويفسكي : "يوجد على هذه الأرض ثلاث قوى وحدها قادرة إطلاقا على إخضاع ضمير هؤلاء المتمرّدين الضعاف وهذا في صالحهم. وتتمثل في المعجزة والغيبيّة والسلطان".
      وهذه هي وجهة نظر المذاهب الدينية المتطرّفة التي تشكل اليوم عنوانا عريضا من سائر أخبارنا اليومية. فمن خلال التخلي عن الإنسان الدنيوي من أجل الإنسان الأبدي الأخروي، تفضّل هذه المذاهب، لصالح هذا الإنسان، الخنوع على الحرية، والإذعان لأمّة المؤمنين على استقلالية الفرد، ونراها في نهاية المطاف تمارس واجب العنف ضد من تعتبرهم من العصاة والزنادقة والمرتدّين، وتؤسس ميزان الحقوق بحدّ السيف الدموي الذي يحرّكه حب مجنون لله إلى درجة انكار الذات. فلو وجد في مكان ما من العالم كره حقيقي للديمقراطية، فإنه هو ذا.  فبالنسبة لهؤلاء، مفتشي محاكم التفتيش وأصحاب الفتاوى القاتلة وصانعي القنابل النّاسفة والجلادين قطّاع الرؤوسِ الذين يخوّلون لأنفسهم "حق الحل و العقد"، حسب تعبير الفقهاء، بالنسبة لهؤلاء، كي يكون الإنسان سعيدا، لا بدّ أن نستأصل منه حريته. وهذا يذكّرنا مرّة أخرى كلام المفتّش الأكبر عند دوستويفسكي، الذي مضى يلوم على الله أنّه علّم الإنسان ما لم يعلم من الحرية، متناسيا أنه "لا يوجد مطلقا للإنسان وللمجتمع الإنساني شيء يصعب تحمله أكثر من الحرّيّة". وهذا الكلام يلخّص عقيدة الطاغية والمستبد والديكتاتور والغازي وصانع الأمم وقائد الشعوب.
      ◄إن الناموس الديمقراطي يخالف هذا الرأي تماما و يقلبه قلبا، حيث يؤكّد أنه " لا يوجد مطلقا للإنسان وللمجتمع الإنساني شيء يصعب تحمله أكثر من المعاناة". فهذا الاقتراح لا يقوم على الحدس بل على برهان قطعي. إن قوة برهنته تستند إلى مبدأ كوني لا يقبل الجدل و يمتدّ إلى ما وراء دائرة أتباعه بمفعول جاذبيّته. ولهذا السبب يرى خصومه أنفسهم مجبرين على تبنّي مصطلحاته و رموزه لتبرير عملهم. وللأسف، إزاء عدم  قدرتهم على الإقناع، لأن قوة برهنتهم تنبني على يقينيات مسبقة لا يمكن تبنّيها خارج دائرة أتباعهم، فإنهم يلجؤون إلى سلاح العنف وغسل الأدمغة وشعوذة شبكات التواصل الحديثة التي تمنح  لأسفل غرائز الذهن البشري سلطة  أكبر ممّا كانوا يمتلكونها من قبل.
     ◄من الواضح أن الناموس الديمقراطي لا يخلو من الخطر، بل يُحتمل أن يمثّل للبعض الخطر الأكبر. وقد قيل هذا وتردّد منذ أفلاطون. قيل إنّ الديمقراطية تخالف الانتقاء الطبيعي للكائنات وأنّها تشجّع على الانقسام المجتمعي و تثير الشعبوية والغوغائية والانشقاقات والنزعة الاستهلاكية وحتى الحرب الأهلية. فهي، حسب ظنّهم، تتنافى والثقافة والتاريخ وحقيقة المجتمعات الإنسانية ووحدتها ومصلحتها، بل أيضا تنافي الطبيعة. ولإثبات ذلك، يقدم التاريخ ما يكفي من الشهادات المتعلقة بالفشل المتكرر للتجارب الديمقراطية عبر التاريخ.
    ◄غير أنّ التاريخ متقلّب الأهواء متناقض التوجّهات يهبّ كما يشتهيه طلّابه  من المفسرّين و المؤوّلين لمعانيه، و من هذا الباب فهو أخطر من المتفجرات. وكما استطاعوا أن يقتاتوا من بعض شهادات التاريخ ما هو دالّ على فشل التجارب الديمقراطية فإنّنا نستطيع أن نستخلص من الحقائق التاريخية ما يكفي من الأدلة للبرهنة على ما جلبته التجارب السياسية والاجتماعية غير الديمقراطية من تعاسة ومأساة و معاناة للإنسانية قاطبة. فبالنسبة للذين يدعون إلى رفض الديمقراطية لأنها لا تحترم الانتقاء و التفضيل الطبيعيين للكائنات البشرية، فليأتوا ببرهانهم على انعدام المساواة الطبيعية بين الناس في التعقّل و الذكاء والمواهب. وأخيرا و بالنسبة للذين يدّعون أنه يوجد بين البشر فوارق في القوة أو في القدرات الجسدية ولاسيما بين الرجال والنساء، فليعلموا أن الفيلة هي الأقوى من الجميع و أنّ الإنسان لا يقاس بوزن عضلاته لأنّه ليس فحلا من فصيلة الخيول الأصيلة.
    ◄وفي الأخير،إن سلّمنا بأنّ المؤلفين الموسيقيين ليسوا كلّهم من طينة موزارت وأن كل الشعراء ليسوا من وزن أبي العلاء المعري أو المتنبي، وأنه لا يتساوى بينهم القادة السياسيون، ممّا يفسّر بعض الأفلاطونيات النخبوية في كتاب الجمهورية، التي نسج على منوالها الفارابي في  كتاب السياسة المدنية، وإذا افترضنا إضافة إلى ذلك أن هنالك فوارق طبيعية توجد بين الكائنات البشرية ويمكن إثباتها، فإننا نعتقد أنه ينبغي التمييز بين الحقائق الطبيعية، برفض تلك التي تؤدي إلى المهانة الإنسانية و إذلال البشر وباختيار طرق المواطنة المتساوية و الحرية. يتعيّن علينا حينئذ أن نرفض الإملاءات التفاضلية الطبيعة أو بالأحرى تكريسها سياسيا ولنقم بتعديلها وتصحيحها بالسياسة و القانون وعلينا أن نقرّ بحقائق طبيعة أعلى كمبدأ اللامعاناة الذي يفسح المجال لقيم أخلاقية، قيم الإنسان للإنسان بالإنسان. وقد أطلق رجال القانون الحاليون وفقه القضاء الدولي على ذلك تسميّة "المبدأ الأساسي للإنسانية." لقد باتت الإنسانية اليوم ذاتا قانونيّة، لاسيّما في القانون الدولي وليست الجرائم ضد الإنسانية سوى اعتداءات صارخة على الناموس الديمقراطي. إن الناموس الديمقراطي هو القادر وحده على استيعاب الانضباط والحرية وبالنسبة للمؤمنين هو الوحيد القادر على ائتلاف حب الله وحب البشر من خلال تحريرهم من الفكرة الفاسدة التي ترى أن القانون العادل والمشروع الوحيد هو قانون الإنسانية المؤمنة. وحتّى إن لم يكن في استطاعة النّاموس الديمقراطي إزالة المعاناة من الأرض فإنه على الأقل يمتلك القدرة على تحليلها تحليلا عقلانيّا للتخفيف من وطأتها و فوق كلّ شيء لمنح الإنسان معنى كاملا لإنسانيته.



[1] كبواس دا داسي أو رٍوبار جروس تات