كثر عدد الخائضين في مسألتي شرعيّة و مشروعيّة المجلس الوطني التأسيسي. فمنهم من يرى أنّ المجلس فقد الاثنين بحلول تاريخ
23 أكتوبر 2012، أي بمرور السنة المنصوص
عليها في ألأمر المتعلّق بدعوة الناخبين وفي إعلان المسار الانتقالي، و منهم من يرى
أنّ المجلس يمثّل الشرعيّة الوحيدة و الأصليّة وهو"سيّد نفسه". وإذ نحن لا نجادل في شرعيّة المجلس، فإنه من الضروري أن نتساءل عن وصفه
بأنّه "سلطة أصليّة".
تحديد اختصاص المجلس الوطني التأسيسي لإعداد الدستور
كانت جميع
المؤشرات المحيطة، السياسيّة منها و القانونيّة، تلمّح إلى أنّ الوظيفة الأساسيّة
للمجلس الوطني التأسيسي محدّدة لإعداد الدستور، لا تشمل أي وظيفة أخرى.
نستنتج ذلك أوّلا من ديباجة المرسوم عدد 35 لسنة
2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 والمتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي. تنصّ الديباجة على ما يأتي ذكره:
" قطعا مع النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب
إرادة الشعب بالبقاء غير المشروع في السلطة وتزوير الانتخابات، ووفاء لمبادئ ثورة
الشعب التونسي الهادفة إلى إرساء مشروعية أساسها الديمقراطية والحرية
والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة والتعددية وحقوق الإنسان والتداول على
السلطة، وانطلاقا من إرادة الشعب التونسي في انتخاب مجلس وطني تأسيسي يتولّى
وضع دستور جديد للبلاد، وباعتبار أن القانون الانتخابي السابق لم يكفل
انتخابات ديمقراطية وتعدّدية وشفّافة ونزيهة، تمّ التوافق على انتخاب المجلس
الوطني الـتأسيسي وفقا للأحكام الآتية".
الظاهر من هذه العبارات أنها تتعلّق بمشروعيّة جديدة أساسها
الديمقراطيّة و أنّها حدّدت بالتالي وظيفة المجلس الوطني التأسيسي و اختصاصه إلى
"وضع دستور جديد للبلاد "،
لا غير. و قد أكّد ذلك القانون التأسيسي عدد 6 في ديباجته عند إشارته
إلى "إنجاح المسار التّأسيسي الديمقراطي".
كذلك
بالنسبة للأمر عدد 582 لسنة
2011 المؤرخ في 20 ماي 2011، والمتعلق بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس الوطني
التأسيس. صدر هذا الأمر لتطبيق المرسوم سابق الذكر، فأكّد الحدّ الاختصاصي الذي نص
عليه المرسوم و جاء في صريح عبارته أنّ المجلس يجتمع يومين بعد التصريح بالنتائج
النهائية للاقتراع "ويتولى إعداد دستور للبلاد...". و لم يذكر ايّ
اختصاص آخر غير الاختصاص التأسيسي. و نفس العبارة تماما " ويتولى إعداد
دستورا للبلاد..."، تكرّرت في الأمر
الثاني المتعلق بدعوة الناخبين الذي نشر في أوائل أوت بعد تأجيل الانتخابات[1].
ربط مسألة اختصاص المجلس بمدّة القيام
بعمله
لا ريب في أنّ
مسألتي اختصاص المجلس و مدّة عمله مرتبطتان ارتباطا وثيقا من حيث المنطق الصرف و
بالتبع من الناحيّة القانونيّة. فبقدر ما يتسع مجال الاختصاصات تطول المدّة، و
العكس بالعكس. فإذا قرّرنا أنّ مهمّة المجلس منحصرة في إعداد الدستور، يكفي أن
نخطّط لذلك أجلا قصيرا لا يتجاوز السنة الواحدة، أما إذا أضفنا مهاما أخرى، مثل
السلطة التشريعية والتصرّف العام في شؤون البلاد، فلا بدّ أن نخصّص لذلك أجلا من
صنف المدد النيابيّة و هي مدد تتجاوز ثلاث سنوات. فلا غرو حينئذ في كون النصوص
المذكورة سابقا علّقت بين المسألتين، مع اختيار الاختصاص المحدود والأجل القصير.
ورد ذلك في
الأمرين المتعلقين بدعوة الناخبين المؤما
إليهم آنفا. في كلا الأمرين جاء في الفصل 6 :" يجتمع المجلس الوطني التأسيسي بعد تصريح
الهيئة المركزية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالنتائج النهائية للاقتراع و
يتولى إعداد دستور للبلاد في أجل أقصاه سنة من تاريخ
انتخابه".
وقد تبنّى نفس
التوجّه "إعلان المسار الانتقالي" الموقّع عليه في 15 سبتمبر 2011. في
هذا النصّ، اتفقت الأحزاب المعنيّة " على ضرورة تقليص
مدة الفترة الانتقالية التي ستلي يوم 23 أكتوبر من أجل وضع المؤسسات
الديمقراطية النهائية والاتفاق على أن
لا تتعدى هذه الفترة مدة السنة على أقصى تقدير وذلك حتى تنصرف البلاد
لمعالجة جملة القضايا الأساسية الأكيدة والحياتية سواء الاجتماعية أو
الاقتصادية". نستنتج من ذلك، أولا أن النص حدّد الاختصاص في المهمّة
التأسيسية المتمثّلة في بناء المؤسسات الديمقراطية النهائية، و ثانيا انّه
حدّد المدّة بسنة و بالتأكيد "على أقصى تقدير"، و ثالثا انّه أرجأ
"معالجة جملة القضايا الأساسية
الأكيدة والحياتية سواء الاجتماعية أو الاقتصادية"، أو بعبارة أخرى السلطة
التشريعية، إلى ما بعد المصادقة على الدستور و نشره.
"الانحراف
بالسلطة" في "القانون التأسيسي" عدد 6 لسنة 2011
صدر القانون التّأسيسي عدد 6 بتاريخ 16 ديسمبر 2012، و كان هدفه "التنظيم المؤقت للسلط
العمومية" .و من جملة أسبابه ذكر القانون صراحة ما
يلي :" وباعتبار المجلس الوطني
التأسيسي السلطة الشرعية الأصلية والمكلفة من الشعب التونسي بإعداد دستور
يحقق أهداف الثورة التونسية وبالإشراف على إدارة شؤون البلاد إلى حين إقرار
الدستور وإرساء مؤسسات دائمة...".
تتكون هذه الفقرة
من فرعين. يتعلّق الأول بالسلطة الشرعية الأصلية والمكلفة من الشعب التونسي بإعداد
دستور يحقق أهداف الثورة التونسية"، و هذا مطابق تماما للمبادئ القانونيّة
المشرفة على المجلس الوطني التأسيسي و المؤطّرة لأعماله. فالمجلس أُحدث بعد
الثورة، التي أطاحت بالنظام السابق و دستوره، لتحقيق أهداف الثورة، و بالتالي ومن
هذه الناحيّة، يعتبر حتما سلطة أصليّة. و نعني بقولنا "من هذه الناحيّة
"، اختصاص المجلس بصفته سلطة تأسيسيّة بُعثت لإعداد دستور. هذا ما أكّده
صراحة الفصل 2 من القانون التأسيسي عدد 6 الذي نصّ على
ما يأتي :" يتولى المجلس الوطني التأسيسي بصفة أصلية وضع دستور
للجمهورية التونسية...". من هذه الناحية لا نمتري في أنّ المجلس
"سيد نفسه".
ومفهوم "السلطة الأصلية"
له معنيان: المعنى العضوي أو الهيكلي، ومفاده أنّ المجلس المنتخب
"أصلا" من الشعب لإعداد دستور يمثّل أعلى سلطة دستوريّه، و لا تفوقه
سلطة مؤسّسة تقنّن إجراءاته أو تراقب أعماله أو تساهم في وظيفته الدستوريّة التأسيسيّة.
أمّا المعنى الجوهري أو الموضوعي، فإنّه يدلّ على أّنّ الأحكام التي يقرّرها
المجلس، في نطاق وظيفته الدستوريّة، لا تخضع، إجرائيّا أو ماديّا، لأي قرار آخر من
رتبه أعلى. و هذا هو ما أكّده حرفيّا الفصل 2 عندما جمع مباشرة "الصفة الأصلية" و"وضع دستور للجمهورية
التونسية..."
وقد أضاف هذا الفصل:" كما يتولى أيضا
بالخصوص المهام التالية:
1 ـ ممارسة السلطة التشريعية.
2 ـ انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي.
3 ـ انتخاب رئيس الجمهورية.
4 ـ الرقابة على عمل الحكومة".
2 ـ انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي.
3 ـ انتخاب رئيس الجمهورية.
4 ـ الرقابة على عمل الحكومة".
فالنّص وحده يكفي دليلا على أنّ المهام من 1
إلى 4، مهام إضافيّة و زائدة لا تدخل قي صلب السلطة الأصلية، كما تبيّنه عبارة
«كما يتولى أيضا...". فاعتبار المجلس الوطني التأسيسي حينئذ، سلطة أصليّة، لا يتجاوز وظيفته التّأسيسيّة و ليس من حقّه ولا من حقّ أحد أن يعتبر المجلس سلطة أصليّة خارج هذا الاختصاص.
إلا أنّ المجلس اجترح انحرافا بسلطته في الفرع الثاني من الفقرة المذكورة
سابقا عندما وسّع من
اختصاصه بتكليف نفسه "بالإشراف على إدارة شؤون البلاد إلى حين إقرار الدستور
وإرساء مؤسسات دائمة...".
و تبعا لذلك، تحوّل المجلس من
سلطة تأسيسيّة إلى سلطة تشريعيّة و من مجلس تأسيسي إلى برلمان، ثمّ من برلمان إلى
نظام مجلسي وهو من أفسد النظم الدستورية التي يمكن أن نتصوّرها كما يشهد على ذلك
التاريخ. ومن مفارقات "الدستور الصغير" أنّه قلب طبيعة الأشياء فخصّص
الحدّ الأدنى من الدستور للوظيفة الدستوريّة (الباب الثاني متكوّن من فصل واحد)،
مع العلم بأنّها هي الوظيفة الأصليّة، و الحدّ الأقصى للوظائف الإضافيّة الأخرى
(من الفصل 4 إلى 21) مع التنصيص في الفصل 6 على أصناف القوانين ومختلف موادها(24
مادة) و كأنّنا في عهد دستور عادي و مؤسسات دائمة.
ومن أخطر ميزات هذا النظّام الذي أحدثه المجلس، لا بدّ من ذكر تلك التي
جعلت منه سلطة لا تكافئها سلطة ولا يقيّدها قيد ولا يراقبها مراقب، ولا يحدّدها
زمن، و هذه بالذّات أوصاف النظام الاستبدادي.
فإذا قبلنا ذلك من المجلس بصفته سلطة تأسيسيّة أصليّة مكلّفة بإعداد
الدستور، باستثناء الحدّ الزمني، فلا يمكن أن نقبله من المجلس بصفته سلطة تشريعيّة
. و لا يصحّ القول هنا بأنّ المجلس "سيّد نفسه"، كما يطيب قوله لبعض النواب المتسرّعين.
ومن أبواب الانحراف بالسلطة التي ارتكبها المجلس، أنّه لم يحدث في القانون
التأسيسي عدد 6، أيّ مراقبة على القوانين يقوم بها هيكل قضائي أو حتّى شبه قضائي،
مما يجعل من تلك التي قد تخالف القانون التأسيسي عدد 6، المنعوت ب"الدستور
الصغير"، أو المبادئ الدستوريّة العامة الوطنيّة أو الدولية، أو المعاهدات
الموقع عليها من قبل الجمهوريّة التونسيّة، قوانين غير دستوريّة محصّنة و مؤبّدة،
وهو أمر خارق لأبسط قواعد السلطة التشريعيّة.
و من المعروف أيضا والمطبق عليه في القانون الدستوري المقارن، أنّ السلطة
التشريعيّة مهما كانت، لا يمكنها أن تنفرد بنفوذ مطلق لا تواكبه سلطة مضادة، وهي
دائما السلطة التنفيذيّة. و احتراما لهذا المبدأ أُحدثت آليّة حلّ المجالس
النّيابيّة، كي لا تستبدّ بالحكم. فكان على المجلس الوطني التأسيسي، و قد قرّر أن
يتقمّص بصفة البرلمان، بجانب السلطة التأسيسية الأصليّة التي يمثّلها، أن يسنّ
أحكاما تتعلّق بحلّ المجلس في بعض الظروف و ببعض الشروط، ولكن لم يفعل ذلك.
فالتّناقض الجلي، و في الآن نفسه، الانحراف بالسلطة، الذي سقط فيه المجلس،
يتمثّل في أنّه أسند لنفسه سلطات البرلمان العادي، وهي، كما ورد بالفصل 2 المذكور
سابقا:
"...2
ـ انتخاب رئيس
المجلس الوطني التأسيسي.
3 ـ انتخاب رئيس الجمهورية.
4 ـ الرقابة على عمل الحكومة"،
3 ـ انتخاب رئيس الجمهورية.
4 ـ الرقابة على عمل الحكومة"،
دون أن يسند لأي فرع من فرعي السلطة التنفيذيّة
أيّ حق قي حلّ المجلس.
والعامل الذي يزيد
في الأمر خطورة، يتمثّل في أن هذا المجلس المؤسّس الذي انقلب إلى "برلمان"
مهيمن و مشرّع، ثمّ متحرّر من كّل ّرقابة، أسند لنفسه نوعا من "الأزليّة"،
إذ لا يحدّه زمن و لا تحصره مدّة، في نصّ القانون التأسيسي. فالجانب القانوني أخلّ
بالوعود التي خطها إعلان المسار الانتقالي ل15 سبتمبر 2011 سابق الذكر، و وضوح القصد كان مكشوفا من الأول عندما رفض المجلس تحديد المدّة بمقتضى القانون
التأسيسي. وأمّا عن الجوانب السّياسيّة التي نالت من سمعة المجلس و مصداقيّته،
فحدّث.
[1] الأمر عدد 1086 لسنة 2011
المؤرخ في 3 أوت 2011 و المتعلق بدعوة الناخبين لانتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي.