الديانة هي مجموعة من التصورات و الأفكار المجرّدة حول مسائل تتعلق باللامفهوم
في حياتنا البشرية، مثل الموت و الفناء و الخلق و الوجود و البدء و الرجع و الزمان
و الدهر و الفكر و الروح و المادة.
ورغم أن هذه المسائل لا تستوجب شيئا آخر سوى الافتراض و التفكير و التدليل،
إلا أنها في حاجة ملحّة للترميز و التمثيل و التجسيد، و ذلك لأغراض الإفهام و
تسهيل الإدراك من جهة، ومن جهة أخرى للتعبّد من قبل جمهرة المؤمنين.
فكل دين في حاجة ماسّة للتحوّل من الجوهري إلى الشكلي بجميع أصنافه، أكانت
من الفنون التشكيلية كالنحت و الرّسم و التصوير و التلوين أو كانت من الأنماط
الصوتية كالأنغام و الغناء و الدفّ و الإيقاع و الترنّم و الترتيل و التجويد، أو
من الأنماط الجسدية كالرقص و الرياضة أو من الأنماط الأدبية كالشعر و السجع
والخطابة أو من الأنماط التمثيلية الناطقة كالمسرح.
و إلا ما معنى المعابد الفاخرة و اللوحات الملوّنة و الحجر المنقوش و
الأصنام و الأهرام و التماثيل و صور الآلهة في ديانات مثل البودية و الهندوسية و
ديانة الفراعنة و ديانات الإغريق و الرومانية ؟ يكفيك لكشف ذلك أن تتجوّل قليلا في
معابد أنقور Anghor أو أن تزور
الأهرام المصرية أو كنائس البندقية أو روما أو بزنطة القديمة.
و ما معنى اللوحات و التماثيل فيما يسمى بالفن
المقدّس و التي أنتجها عباقرة الرسامين الأوروبيين في مجال القصص و الأحداث و
الأسرار الدينية مثل الخطيئة و التكوين و التجلّي و الموت فوق الصليب و التأليم و
القيام و العذراء و الابن و حياة الصالحات و الصالحين؟ ولتكتف هنا بيذكر لوحة
التجلي لرافايال Raphael و تمثال موسى لميكال أنجل Michel Angelo و تحطيم اللوحين لرانبرانت Rembrandt و الرسم الجداري للتكوين الذي
أنجزه ميكال أنجلو على سقف معبدة السكستين، حتى أننا بلغنا إلى تمازج تام بين
الصناعات الفنّية و التعبير الديني، يمكن لأي سائح في العواصم الغربية و الشرقية
المسيحية أن يشاهدها في كل ركن من أركان المعابد و الكنائس التي ملئت باللوحات
الزيتية و الرسوم الحيطية و الزجاج المعشق و الزرابي المصوّرة.
القسم
الأول:
المقدّس الفنّي و الفنّ المقدّس
فالفنّ حامل أساسي للدين و محمل من محاملة و المقدّس في أعلى مراتبه، أي في
نصوصه المقدّسة، لا يتخلّف عن استخدام شتّى أساليب الفنّ و على رأسها الفنون
الأدبية. نجد مثل ذلك في التشبيهات والاستعارات الساحرة الواردة في اللآية 35 من سورة النور:
"الله نور السماوات و الأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح في زجاجة
الزجاجة كأنها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة ، زيتونة لا شرقية و لا غربية ، يكاد
زيتها يضيئ و لو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء و يضرب الله
الأمثال للناس و الله بكل شيء عليم". و قد تردّدت صورة المصباح في همزية
البصيري، "أنت مصباح كل فضل فما تصدر إلا عن ضوئك الأضواء".
و من دلائل هذا التمازج بين الدين
و الفنّ ، المقارنة بين الخلق و التصوير في النّصوص الدّينيّة السماويّة و غيرها
من النّصوص الميثية إو الفلسفيّة. نعرف أن الإلاه خنوم في الدين العتيق المصري صنع
الإنسان على عجلته من طمي النّيل كالفخّار. و قد ورد هذا المعنى في ميثلوجيا الكون الافلاطونيّة في كتاب الطيمايوس حيث يبرز
العقل الفعّال المكوّن، كإلاه فنّان يصوّر و يسطّر ويقسّم و يكوّر و يجمع عناصر
الكون الماديّة و الروحانيّة. أما الأديان السماويّة فقد تبنّت نفس المنهج. جاء في
سفر التكوين:" فجبل الربّ الإلاه الإنسان ترابا من الارض ونفخ في وجهه نسمة
فصار الإنسان ذا نفس حيّة". و لا شكّ أنّ الآية 24 من سورة الحشر أكثر دلالة
في معنى التلاحم بين الخلق و التصوير:" هو الله الخالق، البارئ المصوّر له
الأسماء الحسنى".
فالتصوير هو الباعث الشكلي للإنسان و غيره من المخلوقات:" يا أيها
الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدّلك في أي صورة ما شاء ركّّبك".
ولنسأل : هل هنالك فوارق جوهرية بين الخلق
و الفن ؟ هنا و هنالك نجد التخطيط ، و التصوير و التعديل و التسوية و التركيب .
وقد تدعّمت هذه الفكرة – أي المقارنة بين الفن و الخلق – في أية عجيبة من آيات
سورة الرحمان: " فبأي آلاء ربكما تكذبان، خلق الإنسان من صلصال كالفخّار و
خلق الجان من مارج من نار".
فالله شبّه صنعه بصنع الفخّار، أي
بصنع فنّان يعمل في مجال معيّن من مجالات الفنّ. و في نفس السياق شبّه التكوين
بالتزيين في قوله :" ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح" أو في قوله
" إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب".
فلا غرو بعد ذلك أن تصبح آلة
التصوير و التزيين و التسطير كالآلة المقدّسة يحلف عليها: "ن و القلم و ما
يسطرون"، و لا غرو كذلك أن يصير القلم هو أداة الوصل بين علم الإله و علم
الإنسان:"إقرأ و ربّك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم
يعلم".
ولكنّ الخوف كل الخوف من هذا الفنّان الخلاق، أن يخطئ فيحسب أنه خالق أو
أنّه شبيه به أو قريب منه. لنذكر في هذا السياق ألأسطورة الدّالة والجارية على
حياة ميكال أنجلو Michel Angel والتي تدّعي
أنّه عندما انتهى ونفض يديه من تمثال موسى المشهور ألقى إليه بمطرقة منفعلا و خاطبه
قائلا:"تكلّم الآن". أهذا الأمر
المستحيل علامة معجز أو علامة عجز؟
و قالوا في شعر المتنبي إنه معجز، "معجز أحمد" و كأنهم يريدون بذلك أن صلة
ما تربط بين الإعجاز القرآني و المعجز الشعري، و نسبوا ذلك إلى أبي العلاء المعري،
صاحب " اللامع " في شعر المتنبي، علّهم ينالونه بالإساءة.
أما أبو القاسم الشابي فبعدما أعلن: " إنّي أنا الناي الذي لا تنتهي أنغامه"،
فقد خلص إلى أن قلب الشاعر " جاش بالوحي المقدّس"، و هو ما يرفع من شأن
الشاعر بالنظر لسائر العباد لسبب قدسيّته.
من المعجز نمرّ إلى الإعجاز و هو
صفة الشيء الذي لا يمكن إدراكه لأنه فائت و سابق، فجرت الكلمة عند المفسّرين على
الجمال القرآن الذي لا يؤتيه الشعراء و الأدباء
و الخطباء و أصحاب البلاغة مهما فاقت قدراتهم . و اختلف المفسّرون في معيار
الإعجاز، فمنهم من قال إنه البلاغة و منهم من قال بأن الله صرف الناس عن معارضة
القرآن، و منهم من قال بحكمية القرآن و حقانقه العقلية و العلمية، و منهم من ذكر
ما انطوى عليه القرآن من الأخبار عن المغيّبات و قد حصر القاضي عياض في الباب
الأول من كتاب "الشفاء" إعجاز القرآن في أربعة عناصر: الإعجاز البلاغي و
الإعجاز الأدبي و الإعجاز الغيبي و
الإعجاز العلمي. ولكن منهم من رأى أن الإعجاز القرآني يكمن في تفوّق ذوقه، وهو قول
السكاكي في كتاب ألمفتاح، إذ قال : ّو اعلم أن شأن الإعجاز عجيب ، يدرك و لا يمكن
وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك و لا يمكن و صفها، أو كا لملاحة . و مدرك الإعجاز عندي
هو الذوق ليس إلاّ ".
و يروى أن الوليد بن المغيرة، لمّا سمع إحدى آيات البقرة قال:" و الله
إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة... و ما هو بكلام بشر". و نفهم من كلامه أنه
وصل بين الإعجاز والجمال الفني.
أما جلال الدين الرّومي، فقد وصف القرآن بالعبارات الآتية :"القرآن ..
الساحر العجيب، الذي له لطف عجيب يختم على الانسان الذي يسمع و لا يفهم".
جلال الدين الرومي هو الفيلسوف الشاعر ، أصل الطريقة المولوية و هي طريقة
الدراويش الذين يجعلون من فن الرقص الروحاني و النغم وجها من وجوه التعبّد و الفناء
في الله، أخذا بمقولات الرومي الذي كان يرى أن الصلاة الحقيقية ليست من الصور
الظاهرة و إنما هي صلاة الروح. و الأنغام تغذية للروح عن طريق الباطن و لا الظاهر.
و جاء كلامه في فصل من فصول كتابه "فيه ما فيه".
"و الخلاصة أن هذا العمل ليس صلاة و صياما. فهذه صورة للعمل . العمل
معنى في الباطن".
فالموسيقى و الشعر و الرقص الروحاني كلها تعبّد، و من شأن هذا الفنّ أن
يؤدي إلى الفناء في الخالق المحبوب و هو
الحق عند الصوفية.
و المحبوب محبوب لغاية جماله ، و كما أنّ الحب درجات، فالجمال درجات، من
المادي إلى الروحاني إلى الإلاهي، و هذه هي نظرية الجمال عند ابن عربي.
يرى بن عربي أن الجمال يتدرّج من الجمال العرضي المتبدّل إلى الجمال المطلق
الذي يلتقي فيه الجلال و الجمال، فيصبح هو موضوع التشوّق لله.
في الفتوحات المكّية يروي بن عربي عن مسلم :" إن الله جميل يحبّ
الجمال". فإن كان ذلك كذلك، يضل الحب لذات المولة هو كدح الإنسان الذي ذكره القرأن في :"يأيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه". و يظل التعبّد معرفة جمال الله عن
طريق برتقي من الحبّ الصوري، أي الفنّ الأصغر، إلى الحب الجوهري، و هو الفن الأكبر
. فجمال العالم الصوري المادي منه أو الحي، يفسّره جمال الله ووحدة الكون. العالم جميل،
عند الصوفية، لأنه صورة اللاصورة:
"جمالك في كل الحقائق سافر
و ليس له إلا جلالك ساتر"
وانطلاقا من ذلك يضع الصوفية علاقة وصل بين الجمال الإلاهي و الجمال
الإنساني لاعتبار أن الله تجلى في مخلوقاته، وهي إلى جماله ناطرة، كما قال بي عربيّ:
فما نظرت عيناك مثلي كاملا
و ما نظرت عيناي مثلك إنسانا
ظهرت إلى خلقي بصورة آدمي
وقررت هذا في الشرع إيمانا"
و يسابقه الحلّاج في نفس الفكرة،
قائلا في الجمال الإلاهي و العشق له:
"و الله ما طلعت شمس و لا غربت
إلا وحبّك مقرون
بأنفاسي
و لا تنفّست
مسرورا و مكتئبا
إلا و أنت صهيلي بين أنفاسي
و لا شربت شراب
الماء من عطش
إلا رأيت خيالا
منك في الكاس
أكاد من فرط الجمال أذوب
هل في رضاك يا حبيب نصيب"
و لابن الفارض مثل هذا، لكنّ و قتي ضيق و فنّه واسع، و لكن دعوني استشهد
بعمر الخيام في اعترافه إن الحب متعب للعاشقين كالجمال، و هو الذي قال:
القلب قد أضناه عشق الجمال
و الصدر قد ضاق بما لا يطال
يا رب هل يرضيك هذا الضما
و الماء ينساب أمامي زلال"
القسم الثاني
تبرّؤ الدين من الفن
و تمرّد الفن على الدين
رغم التلاحم بينهما، لا يخضع الدين و الفن لنفس الدوافع. دافع الدين أخروي
ماورائي، و نقطة التمفصل الوجودي عنده هي ساعة الموت، و لا ينشغل بالحياة الدنيا
الّا في حدود استدراجها في الأخرويات. فالحياة الحقيقية عنده هي الحياة الأزلية
ولا الحياة الفانية.
و الدين طاعة و خشوع و تضرّع و خشية، و خوف من اللعنة الإلهية و الغضب الربّاني، و العقاب الجهنمي. و من هذه
الزاوية يقبّح الدين كل ما من شأنه أن يلهي الإنسان عن عبادته أو أن يبعده عن سبيل
الله و شريعته، كاللهو و الهوى و حبّ الحياة الدنيا. هذه الأمور الوهميّة التي هي من
باب :"لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد"، يعارضها
باب آخر و هو"كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّا ثم يكون حطاما
وفي الآخرة عذاب مبين". فالحياة
الدنيا متاع الغرور. و فلسفة الديانات فيها "أن لا تغرنكم الحياة الدينا و لا يغرنكم بالله الغرور". و هذه الفلسفة
هي التي عبّر عنها سفر الجامعة بالكلمات الآتية: "قال الجامع باطلة الأباطيل
و كافة الأشياء باطلة" و بالعبريّة : » « Havel havelim hakol havel. وهذا التصوّر نجده في صلب البودية
التي ترى :
-أن الحياة معانات و متاعب و آلام و شقاء
-و أن أصل هذه المتاعب يكمن في الرغبة و النهب و الشغف بالنعم و الجمال.
-و أن سرّ التخلّص و اليقضة يكمن في التغلّب على هذه الرغبة في الحياة و هو
مبدأ الحكمة.
و من جملة هذه التصورات تنحدر نزعة الدين إلى الزهد، و الفقر و الاعتكاف و
التخلّي و المرابطة و الرهبانية.
أما دافع الفنّ فهو دنيوي، يعمل لتجميل الحياة و خدمتها، وهو إبداع و خيال
و آمال و تمرّد. جنّته في دنياه. يؤمن بتقدمها و نموّها الذاتي و جمالها الكلي و
الجزئي و التفصيلي، و فلسفته الأزلية هي فلسفة الأنسية و الكونية حتى و إن اتحدت
فيها فكرتي الرحمان و الإنسان. لا يوجد فن زاهد ، بل الفن فيضان و غليان و فرط.
أن يكون الجمال
وجميع فنونه في صلب الدّين وحتّى في كيانه وأصله، كما بيّنّا من قبل، لا يمنع من
كون الدّيانة محمولة دائما على تبيين مزاياها وتفرقتها عن الفنّ، حتّى لا يُظنّ
أنّ أخرويّة المجال الدّيني تتساوى مع دنيويّة الفنّ، أو أنّ الوحي قد يُشابه
الإلهام، أو أنّ الإعجاز قد يساوي الإبداع، بل شتّان بينهما. إنّه وحي
"يُوحى" ولا إلهام يُلهم : هذه هي الرّسالة المبدئيّة التي أراد الدّين
أن يوجّهها إلى الفنّ، وهي رسالة تفرقة جوهريّة، تأتي قبل التّعاشر والجوار بينهما.
وللإسلام في هذا
المجال الحسّاس ضروب شتّى ترتكز كلّها على أنّ الرّسول ليس بشاعر ولا مجنون. فشبّه
الشعراء بالمجانين الآتين بالهوى و الغويِّ، منصرفين على الحقّ والرّشد والعقل،
كما جاء في الآية 35 إلى 37 من سورة الصافات، "إنّهم كانوا إذا قيل لهم لا
إله إلاّ اللّه يستكبرون 35 ويقولون أيّنا لتاركو آلهتنا لشاعرٍ مجنون36 بل جاء
بالحقّ وصدّق المرسلين 37".
وجاء في سورة
الطور (29-30) "فذكّر فما أنت بكاهن ولا مجنون. أم يقولون شاعر نتربّص به ريب
المنون، قل تربّصوا فإنّي معكم من المتربّصين".
ومع الطعن في
شخصيّة الرّسول، أتى منهم الطّعن في القرآن، إذ قالوا : "بل افتراه بل هو
شاعر" (الأنبياء).
من هذا
المنطلق، تحوّل التّنزيه إلى تجريح، فنزل الحكم على الشّعراء وعلى أتباعهم،
مُلحقًا إيّاهم بزمرة الأفّاكين، الكاذبين، الهائمين في الآيات 221 إلى 225 من
سورة الشعراء : "هل أنبّئُكُم على من تَنَزّلُ الشياطينُ 221 تنزَّلُ على كلّ أفاك أثيم 222 يلقون السمع
وأكثرهم كاذبون 223 والشعراء يَتّبعُهُم الغاوون 224 ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون 225". فلا تختلط النبوّة بالشّعر وقد هجا
الظّبي المتنبّي قائلا : "الزم مقالَ الشعر تُحظى به ***
وعن النبوّة لا أبالك فانتزع"
وبعد إنزال
الشعراء منزلتهم، يرد تنزيه الرّسول وإعلاء سرّه وصفته الأساسيّة (وهي الوحي) عن
صفات الشعراء :" والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى و ما ينطق عن الهوى،
إن هو إلاّ وحي يوحى...". ومع تنزيه الرّسول عن أن يكون شاعرا ورد تنزيه
القرآن عن أن يكون شعرا في الآيات 69 و 70 من سورة يس : " وما علّمناه الشعر
و ما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيّا ويحقّ القول على
الكافرين".
لا ريب في أنّ
الدّين رهين المناخ الذي نشأ فيه والذي كان يرمي إلى إصلاحه وتبديل أنماطه
العقديّة، فلا غرو حينئذ ، إن نشأ الدّين الجديد في بيئة من عبدة الأصنام أو
الصّور أو النّار أو عناصر أخرى من جماد الطبيعة
أو أحياءها، أن يأتي هذا الدّين بتحريم هذه المظاهر التّعبّديّة.
وهذا ما وقع
بالفعل في الدّيانات السّماويّة ابتداء باليهوديّة. فقد جاء في سفر الخروج الأصحاح
20 من العهد القديم:
"ثمّ تكلّم
اللّه بجميع هذه الكلمات قائلا : "أنا الرّب إلاهك الذي أخرجك من أرض مصر من
بيت العبوديّة. لا يكن لك ألهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما
ممّا في السّماء من فوق وما في الأرض من تحتُ وما في الماء من تحت الأرض".
وكان هذا الحكم
الصارم يهدف إلى تحقيق غرضين اثنين :
الأوّل ، أن لا
يعود الإنسان إلى عبادة الأصنام والانصاب وممارسة الفاتشية، كما كان في عهد
الوثنيّة أو كما فعل عند تعبّده العجل الذّهبي الذي صنعه وسجد له وقد كان موسى،
كليم الله، قائما عند وجه ربّه الأعلى يتلقّى منه الوصايا العشر.
الثاني ، أن لا
يتبادر في ذهنه أنّه قادر على أن يُداني الخالق وهو المصوّر المطلق الوحيد. فلا
يجوز المقارنة بين التّصوير الإلاهي والتّصوير الإنساني ومن هنا جاء حكم تحريم
التمثيل والتجسيم.
تشبّث الإسلام
بحكم التحريم وبالخصوص في ميدان التّماثيل التي تُعدُّ من أشدّ أنواع التّجسيد
تحريما. وجاء حكم التحريم على أساس أنّ الأنصاب في القرآن "رجسٌ من عمل
الشيطان" وعلى أساس أحاديث مثلَ "ومن أظلمُ ممّن ذهب يخلُقُ
كخُلقِي" أو "إنّ أشدّ النّاس عذابا عند اللّه يوم القيامة
المصوِّرون" وقد أطنب الفقهاء في هذا المجال التّحريمي، عن طريق التّأويل
ونقشوا فيه كما شاءوا.
و من هنا تشكّلت
كراهيّة الدّين للفنّ و الفنّانين، لأنّ المتقمّصين بثوب المؤمنين شاعرون بأنّ
الفنّ منافس للدّين من جهة وأنّه هو الباعث الأساسي للثورات الفكريّة، متمرّد على
الدّين من جهة أخرى.
ونشأة الحداثة في
التّاريخ لهي دليل على ذلك، حيث انّ الأدباء والشعراء و الرّسّامين هم الذين
كوّنوا نقطة التّحوّل بين القرون الوسطى الزّائلة والأنسيّة النّاشئة، وذلك
بتحريرهم جميع الأنماط الأدبيّة واللّغويّة والشعريّة والمعماريّة من قيودها
الدّينيّة المفروضة عليها من قبل المنظومة الكنسيّة.
فخلّصوا الألوان،
والذّوق، وأطلقوا عنان الاختراع ضدّ التّقليد، وعادوا إلى النّمط الكلاسيكي الوثني
اليوناني والرّوماني، ورفعوا ستار الكبَت عن الأجساد والعواطف والصّور و اللّغة
والهندسة المعماريّة. وقد ساهم في هذه الثورة الثقّافيّة كلّ من دانيت اليقيارَى ) Dante Alighieri 1265-1321( فيما بين القرن الثاني عشر
والثالث عشر، و الشاعران بترارك Pétrarque (1304-1371) فيما بين القرن الثاني عشر والثالث عشر، و
بوكاشيو Boccaccio (1313-1375) في
القرن الرّابع عشر، و ليونردو دافنشي Léonardo Da Vinci (1452-1519).
و كسّر بوتيتشالي
Boticelli (1444-1510) معايير الرّسم واللّوحات
الزّيتيّة، قصد تحريرها من التّزمّت.
إلاّ أنّ القلم
الذي أرسى مبادئ الحداثة المتمثّلة في تحرير الذّات الإنسانيّة لهو بيك دي
لاميرندولا Pico de la Mirandola -1463) 1494 في كتابه "في كرامة الإنسان"
De hominis Dignitate.
في هذا الكتيّب يرى Pico، أنّ الخالق جعل الإنسان دون مصير
محتوم، ولا وجه معلوم ولا هبة خاصّة، وإنّما خلقه ليغتنم نفسه وينزع مصيره.
فالإنسان مالك نفسه، صانع وجهه وصورته، كالنّحّات أو الرّسّام يصوّر المادّة كما
يشاء. والغريب في الأمر أنّ Pico استهلّ مصنّفه
قائلا :"قرَأت في كتب العرب أنّ الإنسان، في هذه الدّنيا التي هي بمثابة المسرح، هو
المشهد الأحقّ بالتكريم".
فكيف يجيب الدّين
الوضعي -أي المتموضع في المؤسّسات الاجتماعيّة أو الدّين السّياسي، كيف يُجيب عن
تلكّم القدرات الفنّيّة الاختراعيّة ؟
إنّه يُجيب بالتّحريم والتخريب والتّعذيب والقتل
ضدّ المثقّفين والفنّانين والمفكّرين، كما فعل سافونارول Savonarole بمدينة فيرنزي Firenze آخر القرن 15، عندما نصّب ما
أسموه "محارق الغرور" Falo della Vanita وأمر بإحراق التحسينات التّائفة
التّجميليّة مثل المرايا والحليّ وأدوات التّجميل الجسدي وآلات الموسيقى. وقد
فُرِضَ على Boticelli أن يلقي بلوحاته إلى النّار
لغفران ذنوبه و ذنوب المجتمع الذي كفله. و هذا ما فعل الموحّدون في غزوهم المغرب
العربي عندما جرّموا ولاحقوا المغنّين والشّعراء والعازفين على آلات الموسيقى
فكسّروها وأتلفوها، وهذا هو نهج الذين قتلوا الحلاّج والسّهروردي، وهذا هو نهج
الوهابيّة وما يسمّى اليوم بالسّلفيّة الذين استوفوا على الفنّ والفنّانين
والتجميل الحضاري بشتّى أنواع الاعتداء. ومثل ذلك، الجريمة النّكراء ضد الإنسانيّة
التي ارتكبها الطالبان بتخريبهم تمثال البودا العملاق، بودا باميان سنة 2001.
و الأحداث التي
ظلّت تكرّر اليوم بقوّة في سلسلة الثّورات المضادّة التي تمكّنت من البلدان
العربيّة، لهي دليل آخر على الظاهرة فسها. رأيناهم يعتدون على المسرحيّن والمغنّين والفكاهيّين
والعارضين لوحاتهم في بعض المعارض وشاهدناهم يلاحقون بالعنف من بثّ شريطا
كرطونيّا، جريمته الوحيدة أنّه مثّل اللّه في وجه حسن من وجوه الشيوخ الطّيّين. و
كيف يكفّون عن ذاك الصّنيع المنكر وعقولهم المغسّلة و أذهانهم المجهّلة تملي عليهم
تحسين رؤية الدّماء المرهقة، والأعناق المقطّعّة، والمفاصل الممزّقة، والقلوب
المحزّنة. وفي تيهانهم وطغيانهم أسموا ذلك جِهادا. ذلك هو مَدْرَجُهم نحو الذّوق
والجمال ومساهمتهم في ارتقاء الفنون ونموّ الحضارة وخدمة سمعة الإسلام بين الأمم.
يتبيّن بصفة
جليّة ممّا سبق أنّ الدّين والفنّ ليس بوسعهما أن يخرجا من هذه العلاقة الجدليّة
بين التّآزر والتّنافر، فلو انحصر هذا التنافس في دائرة الفكر والذّوق والتّعبد
المحض، قد يكون أداة تغذية وإثراء للدّين والفنّ كليهما، أمّا إذا هبط ميدان الحكم
والسياسة والسّلطة الاجتماعيّة، والنّظام الجماعي، يمضي الدين يتبرّأ من الفنّ ثمّ
يناله شتّى وسائل القمع والعسف، والفنّ يتمرّد على الدّين وقيوده، حتّى يصل إلى
درجة الاستهزاء به والانقلاب عليه فيكون أقوى فاعل في الثوراث الفكريّة.
الإشكال في
الدّين أنّه حتما مؤسّسة من بين المؤسّسات الاجتماعيّة القريبة من الحكم السّياسي،
يوازيه أو يخالفه ، يسانده أو يقاومه. ومن هنا تُفتح للدّين أبوابُ الوسائل
السّياسيّة : النّضال، الدّعاية، الحشد، القانون والأحكام، التّحيّل، الدّهاء،
التخطيط، الكذب، المناورة، الوعد والوعيد، التّسلّط، التهديد، القمع، العنف،
الحرب، القتل، الاغتيال، التعذيب.
من هذا المنظار
يسقط الدّين حتما في تناقض دائم لا مناص منه، بين أصله النّظري وممارسته
التّجريبيّة فالأصل في الدّين أنّه أخلاق، وإخلاص، وإيمان، وخير وحبّ وإحسان وعدل،
وتفان. أمّا الدّين في العمل الاجتماعي فمحكوم عليه بأن يتخطّى سُبُلا لا تمتّ
بأيّ صلة من الصّلات لمنواله النّظري،
فيعيش دائما في نوع من الانفصام الذاتي والضّمير المقلوب، تارة يقتدي بأصله
الرّوحاني وطورا بصيغته السّياسيّة التي تحتوي القمع والعنف والتّهديد والثّأر.
وفي النّهاية،
يضلّ الفنّ باعتباره ضرورة وجوديّة للإنسان هو الفاصل المشترك الكوني في
الإنسانيّة والذي قال أن قلبه:
مرعى
لغزلان ودين لرهبان
وبيت
لأوثان وكعبة طائف
وألواح
توراة و مصحف قرآن،
هذا الإنسان الذي
قال هذا الكلام، إنّما هو فنّان بامتياز وهو عارف العارفين بأنّ الدّين السّياسي
يقسّم ويفتّن و يمزّق ويكرّه وأنّ الفنّ يوحّد ويسلم ويحبّب. ومن أحسن الامثلة
لذلك الشريط القيّم الذي أخرجه رومان بولنسكي "عازف البيانو"Le Pianiste والذي يرينا كيف أنّ تقسيما
موسيقيا بديعا على البيانو أنهى الحرب وختم الإخاء وألّف بين أعداء.
وكم أنا سعيد بأن
أخرج من ذلك إلى القول بأنّ الفنّ في ثوبه الدّيني أو اللاّديني هو أداة التّلاحم
والحبّ بين النّاس و وسيلة السلم الدّائمة بينهم، خلافا للأديان الرّسميّة التي
نثرت طرائقها بالحروب والعسف والقهر. سلاح الفنّ ورمزه هو النّاي، أمّا الأديان
فالسيف، سيف النّظام، سيف السّياسة.
اسمحوا لي في
نهاية هذه المحاضرة أن أَقُصّ عليكم حكاية طريفة عشتها مع أستاذي الجليل سيّدي
الهادي التركي. دار الحديث يوما بيننا حول زيارة قام بها صحبة نفرين من زملائه من
مشاهير الرّسامين التونسيّين إلى المكان الذي دفن فيه رانبرانت و هي كنيسة Westerkesk بمدينة أمستردام . هناك تجمّعوا
أمام الرّخامة التذكاريّة وقرأوا الفاتحة ترحّما على روح الرّسّام النّابغة. فقلتُ
لأستاذي مداعبا إياه : "يا لَيْتكم بفاتحتكم هذه تدخلونه الجنّة". عندها،
حدّق إليّ الأستاذ الهادي، وحملقَ بعينيه الذّكيّتين وشنف إليّ قائلا : "
فضله عند اللّه أعظم من فضلي". هذا هو الفنّان وذاك هو الإيمان.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire