الواقع التاريخي يبيّن بوضوح تام أنّ الثورة التونسيّة هي
ثورة مدنية، لا دينيبّة، ديمقراطية، تعددية، مبنية على المفهوم الحديث لحقوق
الإنسان ودولة القانون والحرية. هل حقّق مشروع
مسودة الدستور هذه الأهداف؟
I
– الصبغة
المدنية للدولة.
وردت عبارة "الدولة المدنية" في الفقرة الثانية من التوطئة على
النحو الآتي ذكره: "و من أجل بناء نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي تكون فيه
الدولة مدنية ..."، مع العلم أن هذه "المدنية" لا بدّ أن تفهم
بمعناها الحداثي المطابق للثورة، أي فصل الدين عن السياسة والتشريع، لا بمعناها
التراثي، أي انّ الإسلام دولة مدنيّة في الأصل، كما يدّعي البعض. لا يجوز الخلط
بين المفهومين و لا التلاعب بالألفاظ. عبارة "دولة مدنيّة" تعني دولة لا
دينيّة أو دنيويّة لا أكثر.
إلا أن هذه المدنية لم تتأكد في نص الدستور، حيث جاء في الفصل الأول من
مشروع المسودّة :"تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الاسلام دينها، والعربية
لغتها، و الجمهورية نظامها"
وإزاء هذا الفصل يتعيّن علينا أن نطرح سؤالين:
1/ لماذا اكتفينا بالفصل الأول، كما وُجد في دستور 1959، دون إي إضافة،
وكأن شيئا لم يحدث منذ سنة 1959؟ أين، في نصّ الدستور، المبدأ الذي أقرته الثورة
بقوة وحزم وهو مبدأ مدنية الدولة؟
في هذا الصدد نذكّر أن الثورة لم ترفع شعارات ذات صبغة دينية، فكانت
رسالتها رسالة دنيوية سياسية صرفة، وهذا يقتضي فصل الدين عن الدولة حتى وإن
اعتبرنا أن الاسلام دين المجتمع وأغلبيته الساحقة كما جاء في الفصل الأول.
2/ كيف نبرّر ما جاء بالفصل 148 : " لا يمكن لأي تعديل دستوري ان ينال
من :
-
-الإسلا م باعتباره دين الدولة ...
- ...
- ...
-
-الصفة المدنية للدولة".
هذا الفصل يثير إشكالات خطيرة، حيث يتضمّن تناقضين أثنين على الأقلّ:
الأول، بين الفصل 148 والفصل الأوّل من مشروع المسودّة، حيث يعني الفصل
الأوّل أن الإسلام دين المجتمع والبلاد ولا دين الدولة، فكيف تحوّلنا من هذا
المعنى إلى معنى جديد متباين تماما، وهو المنصوص عليه بالفصل 148؟
أما التناقض الثاني، فهو تناقض داخلي في صلب الفصل 148، بين اعتبار الإسلام
دين الدولة وتبنّي الصفة المدنية للدولة.
خطورة هذا التنصيص يتمثل في أن مفهوم "دين الدولة" مفهوم مطّاط،
يمكن فهمه في إطار أصولي محافظ متزمّت، من شأنه أن يؤدي إلى تأويلات تيوقراطية،
كليانية، تكون متناقضة تماما مع مدنية الدولة وديمقراطية رسالة الثورة.
وانطلاقا من هذا النّص، نمكّن المشرّع من سنّ أحكاما مستخرجة مباشرة من
الشريعة، كما يفهمها البعض من المتزمّتين، المتعصّبين، المقتدين بالمذهب الوهابي
أو بالمذاهب الأصولية الأخرى الرافضة رفضا مطلقا تحديث الإسلام وتصالحه مع الرؤى
الدستوريّة الديمقراطية.
على أساس هذا المفهوم، أي مفهوم "دين الدولة"، يمكن غدا، لو
قُدّر علينا غدّ العسر، لأيّ أكثرية تنتمي إلى مثل هذه المذاهب أن تلغي مثلا مجلة
ألأحوال الشخصية، التي تمثّل الدستور البنيوي الحقيقي للشعب التونسي، أو أن تفرض
عقوبة إعدام المرتدّ، رغم ضعف أصولها الدّينيّة، المتمثّل في غيابها من النصّ
القرآني، و معضلتها في الحديث، أو أن تقوم بتطبيق الحدود من رجم وصلب وجلد وقطع،
كما تفضّل باقتراحه نائب في المجلس الوطني التأسيسي، منذ بداية أعماله في شهر
نوفمبر 2011. كما أنه قد يتسنى لهم الرجوع إلى نظام أهل الذمة، وتجزئة النظام
التشريعي التونسي إلى نظم ملّية طائفية، تتبع دين كل فئة دينية، على غرار الدستور
المصري. وفي ذلك إهدار لمفهوم المواطنة.
وهذا المناخ الدستوري الإسلاموي هو اليوم بصدد التأكيد، إذا اعتبرنا الجهود
المستميتة التي يبذلها بعض النواب دفاعا عن بعث مجلس إسلامي أعلى بمقتضى الدستور،
قد يكون له قول في تقييم إسلاميّة تشريع الدولة.
فإذا جاز أن نتخوّف من الثورة المضادة، كما يقال اليوم، فمن هنا نبدأ،و
نعني بذلك أنّه إذا تمّت المصادقة النهائية على هذه النصوص، فسوف نكون قد خطونا
خطوة عملاق، نحو تكريس الثورة المضادة.
إذا أردنا أن تحترم مغازي الثورة، بمعنى الغزو وبمعنى المغزى، يجب علينا،
أولا، أن نضيف نعت
"مدنية" في الفصل الأول، فيقرأ كما يلي: " تونس دولة مدنية حرّة
مستقلة..."،
وثانيّا، أن نحذف من الفصل
148 عبارة "دين الدولة" أو أن نعوّضها بالإشارة إلى الفصل الأول على
النحو الآتي: " لا يمكن لأي تعديل أن ينال من:...
-
-الفصل الأول من الدستور".
II- الحرية الغائبة.
الشيء الذي يدعم هذا التخوّف يتمثل في الفصول المتعلقة بالحريات، وبالخصوص
بالحريات الفكرية والاعتقاديّة عامة.
جاء في التوطئة أن النظام المقصود تحقيقه :"يقوم فيه الحكم على احترام
حقوق الإنسان وحرياته"، ونص الفصل 4 على ما يلي:" الدولة راعية للدين
كافلة لحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية حامية للمقدسات ضامنة لحياد دور
العبادة عن الدعاية الحزبية"، ثمّ جاء في الفصل 36:" حرية الرأي
والتعبير و الإعلام والإبداع مضمونة."
من جملة هذه التنصيصات من مشروع مسودة الدستور، نستنتج أنه اعترف صراحة
بالحرية الدينية وحرية الرأي بفروعها التعبيرية والإعلامية والإبداعية، مضيفا إلى
ذلك إلزاما على الدولة بأن تكون "راعية للدين" و"حامية
للمقدسات".
بقطع النظر عن كون رعاية الدين
وحماية المقدّسات تعني في الحقيقة، في المناخ السياسي للدول الإسلاميّة، حماية
حصرية للديانة الإسلامية، فإنّنا نطرح سؤالا جوهريا: أين "حرية الفكر"
وأين "حرية الضمير"؟
نطرح هذا السؤال لأن الحريّتين تشكلان العمود الفقري للنظام الديمقراطي. في
مثل هذا النظام، وهو النظام الذي تبنّته الثورة، تعني حرية الفكر قبول الأفكار
المخالفة للمتعارف عليه، والمتفق فيه والمجمع عليه. وحرية الفكر هي حرية القطع مع
الفكر السائد، وبهذا المعنى تحمي الفرد والأقليات وذوي الأفكار الشاذة، التي لا
تميل إليها المجموعة، من ضغط الفكر العام الجماعي والعقليّة المدنيّة السّائدة.
إذا فهمنا غير ذلك، فنكون قد أفرغنا مفهوم الديمقراطيّة من محتواه، بل نكون
انتزعنا عن الثورة قيمتها التاريخية الإضافية، لأن الثورة خلّصتنا من الفلسفة
التراثية الكليانية الشموليّة العسفيّة، فلسفة الأمة والملّة والبيضة والجماعة،
وأدخلتنا في إطار الفلسفة الحديثة الذاتية التي تمكّن الفرد من تقرير مصيره
والانعتاق من المعروف والسائد من الأفكار.
في نفس السياق نطرح سؤالا آخر يتعلّق ب"حرية الضمير". هذه
الحرية، هي الحرية الأساسية في النظام الديمقراطي وتضمن الحرية الفلسفية المتعلقة
بالماورائيات، والحرية الإيمانيّة بأعلى معناها، وهو أنه يرجع للفرد وحده أن يقرّر
اختياره في مجال الإيمان، وهذا يعني ان يكون له دين موروث، أو أن يختار دينا حسب
اجتهاده الذاتي وقناعته الشخصية، أو أن يغيّر دينه ليعتنق دينا آخر او أن يبقى في
وضع فلسفي آخر كوضع اللاأدريين او المتردّدين أو النُفاة.
وتلكم الأشياء التي كانت تسمّى في
القديم الساحق زندقة وإلحادا وبدعة ومروقا وارتداد وبغيا وخروجا، أصبحت اليوم
تسمّى في الحضارة العصرية انعتاقا وذكاء وإبداعا وتحرّرا وتقريرا للقدرات الذهنية
البشرية أي بإيجاز تسمّى "حرية الضمير".
وهذا الإحجام عن ذكر حرية الضمير في المسودة يتماشى تماما مع إحجام المجلس
الوطني التأسيسي عن ذكر كونية الحقوق والحريات والإشارة الصريحة للإعلان العالمي
لحقوق الإنسان الذي اعترف صراحة بحرية الضمير وبحرية تغيير الديانة الموروثة في
فصليه 18 و19.
ومن هذه الناحية لا شكّ أن هذه
المسودّة متأخرة عمّا ورد بالفصل 5 من دستور1959 المنقّح ، الذي أشار صراحة إلى
" الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في كونيّتها وشموليتها وتكاملها
وترابطها". فالسؤال: هل نحن راغبون في التقدّم أم في التأخّر، وهل قمنا بثورة
أم بالرجوع إلى عهد البوائدّ من الأزمنة؟
أضف إلى ذلك انه إذا كانت لجنة الحقوق والحريات قد اقرّت أن تدرج الحريات و
حقوق الإنسان والأحوال الشخصية في صنف القوانين الأساسية، فقد اقترحت لجنة التنسيق
والصياغة أن تتخذ هذه المواد في شكل "قوانين" (هكذا)، وأضافت:"تتخذ
شكل قوانين أساسية القوانين الموصوفة بذلك في الدستور".
فما هو دور لجنة التنسيق والصياغة؟ هل هو السعي إلى التحسين والاستدراك أم
هو التوغّ في الأخطاء و التناقض؟ نطرح هذا السؤال لأنّ اللجنة المذكورة ارتكبت
هنا خطأ فادحا يتمثّل في تناقض محض، إذ كيف يمكن أن نقرّ في نفس الوقت:
1/ بأن الحريات من اختصاص "القانون"، فنفوّض الأمر للمشرع العادي
الذي يمكنه أن يغيّر القانون بأغلبية ثلث أعضاء مجلس الشعب
2/ ومن جهة أخرى، أن ننصّ في الفصل 148 على أنه لا يمكن لأي تعديل دستوري
أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور،ممّا يؤدي إلى
إبعاد المشرّع العادي عن هذا المجال؟
الاستنتاج.
فإذا لخّصنا واعتبرنا العوامل الآتي ذكرها:
1/ التلفظ بمدنية الدولة وإفراغ المفهوم من محتواه
2/ تأويل الفصل الأول من الدستور على النحو المذكور بالفصل 148
3/ رفض الإقرار بكونية حقوق الإنسان
4/ عدم الإشارة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
4/ عدم الإشارة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
5/ رفض التنصيص على حرية التفكير والضمير بجانب حرية الدين
6/ الإشارات المتكررة في التوطئة (7 مرّات) إلى مفاهيم دينية أو دينية
إثنية
7/ إدراج الحريات في صنف القانون العادي وإمكانية تنقيحها بأغلبية نسبية
8/ التأكيد على حماية الدين والمقدسات من قبل الدولة
9/مشروع بعث مجلس إسلامي أعلى،
إذا اعتبرنا كل هذا، فإننا نصل إلى النتيجة الحتمية الآتية:
1/ أن التنازلات الظاهرة من قبل الحزب الحاكم هي تنازلات
لفظية لا أكثر، حيث أنّ الشريعة كمصدر أساسي للتشريع، أخرجت من الدّرب و أدخلت من ثنايا،
2/ أن مسودّة الدستور لا تتماشى البتّة مع رسالة الثورة،
3/ أن مسودّة الدستور من شأنها أن تفتح أبوابا واسعة لكل من يريد أن يؤسّس
دكتاتورية تيوقراطية وأن يغتال نهائيا الحقوق التي اكتسبناها من خلال الثورة.
4 / وأن يكون دستورنا في نهاية المطاف دستورا لا وطنيّا، في خدمة الدولة الدينية.
الي الاستاذ عياض
RépondreSupprimerما هو دوركم الآن؟
Qui vas avoir le courage de sacrifier le confort et l'intérêt personnel pour redonner aux peuple Tunisien la liberté que les obscurantistes théocrates rétrogrades risquent de confisque à jamais !!!!
RépondreSupprimer