vendredi 26 octobre 2012

المشهد السياسي في تونس: ربط حاضره بماضيه.


لا يستطيع أحد، من الناحية المنهجيّة، أن يتنبّأ بدقّة بوقائع المستقبل، القريب منه وبالأحرى البعيد، وذلك لأسباب عديدة، منها أنّ الأحداث تحرّكها الحوادث. معنى ذلك أنّ مادّة التاريخ تتشكّل، لا فحسب من العوامل الاجتماعيّة الجوهريّة أو الضروريّة والثابتة، التي يمكن حصرها ومعرفتها بالإحصاء[1]، ولكن أيضا بمفعول المجهولات من الظروف والحوادث والعوارض والمصادفات المتتالية والمتراكمة التي لها مفعول قويّ في تسيير التاريخ وتوجيهه. فإذا كان بإمكاننا أن نتوقّع شيئا ممّا سيحدث  في المستقبل، على أساس العوامل الضرورية والثابتة، فليس باستطاعتنا أن نقوم بنفس التوقّعات، إذا ارتبط الأمر بتلك العوامل الظرفيّة من الحوادث المجهولة.
والتاريخ زاخر بمثل هذه العناصر العرضيّة. فإذا اعتبرنا، مثلا التجربة التونسيّة الحديثة المتمثلة في اندلاع ثورة أطاحت بأبشع نظم عرفها تاريخ البلاد ورفعت للعالم رسالة تحرّرية متأصّلة في فلسفة حقوق الانسان وقيمها الثابتة وهي الحريّة والكرامة والعدالة، لشاهدنا في تسلسل الأحداث التي أدّت إلى هذه الثورة العديد من العوامل الظرفية التي كان من شأنها أن تكون أو لا تكون. فهروب الرئيس المخلوع وعدم إمكانيّة رجوعه إلى أرض الوطن، لهي من صنف تلكم العناصر. فلو توقّعنا، من باب الإفتراض أو التكهّن، أنّه لم يغادر التراب الوطني أو أنّه تمكّن من  الرجوع إليه بعد الفرار، فما كان يحدث يا ترى؟ أكيدا، لكان وجه التاريخ على غير ما صار عليه في الواقع. من ناحية أخرى، هل كان من النّاس، قبل وقوع الحدث الفاصل، أن ينبئنا به؟ أكيدا، لا، و هذا يدلّ على أنّ التاريخ صامت، يداهمنا بألغازه و يداعبنا بأسراره قبل وقوع الاحداث و بعدها.
والسؤال الذي طرحناه حول الثورة التونسيّة، نطرحه أيضا، دائما على سبيل المثال، بالنسبة لبعض أحداث الثورة الفرنسيّة. ماذا كان يحدث، ياترى، لو نجح لويس السادس عشر هروبه من العاصمة باريس للالتحاق بأنصاره ولم يقع القبض عليه في مدينة فاران في شهر جوان 1791.
فتوقّع ملامح " المشهد السياسي المستقبلي في تونس" لا يمكن له أن يعتمد أكثر من عوامل أساسيّة للحاضر، غالب الظنّ أنّها ثابتة، وأن يبني على أساسها توقّّعات ممكنة تتعلّق بالمستقبل. أمّا الدخول في الدقائق والعوارض التي لا شك أنّها توجّه التاريخ بصفة قويّة فلا سبيل إلى معرفتها. وبالتالي تبقى جميع التحاليل المستقبليّة مضروبة بطابع النسبيّة.
جذور الاستقطاب الإزدواجي
في حدود الاعتبارات المتقدّمة، يمكن لنا أن نلخّص الظاهرة الأساسيّة التي تحكم موضوعنا في الاستقطاب الإزدواجي الحضاري والمذهبي والذهني الذي طغى على تاريخنا الحديث منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. هذه الظاهرة، ظاهرة تاريخيّة عميقة، لا سطحيّة، ولم تقف آثارها في حدود البلاد التونسيّة، بل زعزعت الحضارة الإسلامية في وحدتها الثقافيّة، والماديّة، والذهنيّة، والدينيّة والسياسيّة.
تتمثّل هذه الظاهرة في العناصر الآتي ذكرها:
ــ إن النخب في البلدان الاسلاميّة وعت، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بأنّه تولّد فارق ملحوظ، بل شاسع، بين الحضارات الكبرى العالميّة على المستوى المادّي والاقتصادي والعسكري والاداري والسياسي. وهذا الفارق الحضاري هو الذي أدّى إلى ظهور مفهوم تحليليّ جديد يتمثّل في مقابلة التخلّف والتقدّم. فبينما كانت الحضارات تسير بنفس السرعة وعلى قدم المساواة تقريبا أصبحت تتفاوت في ما بينها تقدّما وتخلّفا، قفزا وركودا، حيويّة وخمولا، إيجابيّة وسلبيّة.
ــ من هنا نشأ سعي شامل من قبل نخب المفكّرين والسياسيين إلى الالتحاق بركب الحضارات المتقدّمة من قبل تلك التي أصبحت متأخّرة.
ــ ولتحقيق هذا الطموح وذاك العرض، نادوا بالأخذ بآراء ومناهج الحضارة المتقدّمة، وهي الحضارة الأوروبية التي برهنت بصفة قطعيّة على تقدّمها. إلاّ انّهم كانوا حرصين على التقيّد بالتوافق بين توريد الآراء الجديدة من الخارج و مكوّنات الحضارة الاسلاميّة وتراثها الذهني والمذهبي والعقائدي وعلى رأسها أحكام الشريعة الاسلاميّة.
في هذا السياق يقول خير الدين باشا سنة 1867 في "أقوم المسالك..." "والغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروبية إلى ما هي عليه من المناعة والسلطة الدنيويّة أن نتخيّر منها ما يكون بحالنا لائقا ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا..."
ومن ذلك التاريخ إلى اليوم ظلّت البلاد تعيش كليّا في ظلّ هذا الاستقطاب الازدواجي وذلك على جميع المستويات، سواء منها الماديّة أو المعيشيّة أوالأخلاقيّة.
فلو بادر باحث بجدولة الحياة الاجتماعيّة في بلادنا لاستطاع أن يدرج المستويات المذكورة في جدول ثنائيّ، يكون أحد عموديه مخصّص لعناصر الحداثة، وثانيهما مخصّص لعناصر التراث:




حداثــــــة
تـــــراث
علـــــوم. ثقافة وضعيّة زمنيّة.
 دين . شريعـــــــة
سياســــة. قانون. دستور
سياسة شرعية. فقه
آلات عصريّة.تكنولوجيا.
صناعات تقليديّة
لغة أجنبيّة.
هويّة "عربيّة إسلاميّة"
زيّ عصري.بدلة أوروبيّة  »سوري"
لباس تقليدي. عرفي أو زيتوني
مآكل ومشروبات جديدة.
مآكل ومشروبات تقليديّة
عمران وبناء"سوري"
المدينة العتيقة
  
على مجرى التاريخ تبلور هذا الاستقطاب الازدواجي الشامل في جميع مراحل تاريخنا الحديث. وهذه المراحل تنحصر في الأربعة الآتي ذكرها:
تتمثّل الأولى في الحركة الإصلاحيّة الحسينيّة في عهد أحمد باي، ثمّ مْحمد باي ثمّ الصادق باي، بمناصريها ومناوئيها. و قد أفرزت هذه الفترة  نصّ عهد الأمان (1857) وقانون الدولة (1861) و كان  شعارها "الحكم المقيّد بقانون" حسب تعبير ابن أبي ضياف. أمّا الثانية فتجسّدت في الحركات الوطنيّة والإصلاحية والاجتماعية، مثل تونس الفتاة، والحركة الوطنيّة الإسلاميّة للشيخ عبد العزيز الثعالبي، و تكوين الحزب الحرّ الدستوري التونسي بقيادة الحبيب بورقيبة، والثورة الفكريّة الاجتهادية للطاهر الحدّاد، ،  والحركة الإصلاحية الزيتونيّة تحت شعار "أليس الصبح بقريب"، والتيّار الطلابي "صوت الطّالب الزيتوني"، ونشأة الحركة النقابيّة التي تضافرت في بعثها القوى الوطنيّة والنقابيّة والدستوريّة والزيتونيّة. والمرحلة الثالثة هي دولة الاستقلال بفترتيها المتمثلتين في الاستبداد المستنير البورقيبي 1956-1987، والاستبداد الشنيع الديكتاتوري في عهد بن علي 1987-2011. أمّا المرحلة الرابعة والأخيرة، فهي التي بدأت باندلاع الثورة وما بعدها، ونحن الآن بصدد معايشتها، وتبعا لذلك تبقى تبعاتها مجهولة الأركان.

نمــوذج دولة الاستقلال التحديثيّة
والجدير بالذكر في هذا السياق أنّ الاستقطاب الازدواجي المشار إليه سابقا لهو بارز في جميع هذه المراحل. ولتمثيل ذلك سنكتفي في ما يلي بدولة الاستقلال.
لا شكّ أنّ هذه الدولة، وهي دولة تحديثيّة، توخّت أسلوب "الاستبداد المستنير". ومعنى ذلك أنّ الدولة وضعت في سبيل مشروعها التحديثي جميع أساليب الدولة من قانون وضعي، وعنف مشروع، و قمع و ضغط سياسيّين. فأنجزت إصلاحات اجتماعية وتربويّة  و سياسيّة جمّة، تمثّلت في العديد من القوانين وعلى رأسها مجلّة الأحوال الشخصيّة.
 ولتحقيق مشروعها واجهت الدولة المستقلّة المؤسسة الحضاريّة والثقافيّة المركزيّة المتمثّلة في المؤسسة الزيتونيّة. فقامت بنوع من تصفية هذه المؤسسة كما أنّها أشرفت على عمليّات مضادّة مباشرة للمعتقد الرائج في البلاد، كما وقع في قضيّة رمضان سنة 1960 م حيث دعا رئيس الجمهوريّة رسميّا المسلمين لتجنّب الصوم تفاديا لفتور الأنشطة الاجتماعيّة والاقتصاديّة أثناء هذا الشهر المقدّس. إلا أنّ الدولة البورقيبيّة لم تقف عند هذا الحد بل تجاوزته لمواجهة جناحها التحديثي اليساري المتطرّف المتمثّل في مجموعة آفاق ((perspectives وقامت أيضا بمواجهة حركة ظهرت في السبعينات تحت عنوان حركة الإتجاه الإسلامي وتفاقم الأمر بعد نشأة حزب النهضة فتكاثرت المحاكمات والمعاملات القمعيّة في نفس الوقت ضدّ اليساريين وضدّ الإسلاميين.




نمــوذج دولة الاستقلال التحديثيّة
الحركة الإسلامية قمع محاكمة
1970-1987

النظام الزيتوني شبه تصفية
1960-1970

الدولة  المستقلّة 1956-1987

اليسار
إدماج. محاكمة.  قمع 1956-1987
القطب الإسلامي التراثي

القطب التحديثــي

في هذا النمط المبيّن أعلاه، قامت الدولة التحديثية بمواجهة الجناح الذي ينتمي إلى نفس العائلة الذهنيّة، أي جناحها اليساري الماركسي أو الاشتراكي، إمّا بالإدماج، إذا تمكنت من ذلك، وإمّا بالقمع والمحاكمات والسجن والتعذيب إذا أصرّ المناوئون من هذا الجناح على خروجهم عنها. أمّا بالنسبة للشقّ التراثي الزيتوني، فقامت الدولة إزاءه بشبه تصفية أدّت في نهاية الأمر إلى تهزيله تماما في المناخ الاجتماعي التونسي. ومن هذه التصفية، تولّدت حركة نضاليّة شبابيّة سياسيّة ذات مرجعيّة إسلاميّة. فرفعت ضدّ الدولة البورقيبيّة شعار أسلمة المجتمع التونسي الذي أفقدته الدولة أصالته، فقامت الدولة بردّة فعل ضدّ هذه الحركة، باستعمال القوّة المشروعة في ظلّ القانون ولكن أيضا باستعمال العنف خارج الشرعيّة بالقمع والتعذيب والإقصاء والتهديد  وانتهاك الأعراض.
ولا ريب في أنّ هذه السياسة التعسّفيّة، سواء ضدّ اليسار أو ضدّ الحركة الإسلاميّة، زادت خطورة وتشدّدا في الاستقطاب الازدواجي الذي تردّى في التصارع والتّأزّم.
وممّا زاد في الأزمة تفاقما، السياسة القمعيّة المستمرّة التي توخّاها النظام الدكتاتوري من التسعينات حيث أنّه توغّل لا في القمع فحسب بل أيضا في الرشوة والفساد إلى درجة تجاوزت الحدود واقتحمت أدنى مبلغ من الحشمة والمعروف إلى أن أثار ذلك اندلاع الثورة بين ديسمبر 2010 وجانفي 2011.
"الأنا" و"الآخر"
 وتبعا لتأزّم هذا الاستقطاب الثنائي، أصبح الفاعلون السياسيّون يتوخّون أساليب المواجهات المباشرة، بروح نضاليّة متشنّجة وبألفاظ الاتهام والتجنّي، والتراشق بالسباب والهمز وأحيانا بأساليب المواجهة بالعنف الجسدي. وهذه الظاهرة تلوح من النعوت والأوصاف التي يستعملها كلّ واحد من الأطراف لتعريف نفسه وتعيين منافسه.
فإذا وقفنا أمام الحداثي نشاهد أنّ تعريفه لنفسه ولمنافسه الأصولي يستقطب في جدول لفظيّ ازدواجي ينقسم بين "الأنا" و"الآخر". في باب "الأنا" نجد ألفاظ الانفتاح على الحضارات، والثراء الثقافي والأخذ بروح الإسلام ومقاصده و تحديث المجتمع. أمّا في باب"الآخر" فنجد الفاظ الانغلاق، و الجهل بالحضارات وبالمكاسب الإنسانيّة، والروح السلفيّة، و الظلاميّون، والماضويّون و الأصوليّون.
أمّا إذا وقفنا جانب الإسلاميّين، فسوف نكتشف نفس الازدواجية. فيكون تعريف "الأنا" بالأصالة وحبّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة والنهوض للدفاع عن الإسلام والتقيّد بتاريخنا وأسلافنا، وجعل اللّه والتعاليم الربّانيّة فوق كلّ اعتبار. أمّا "الآخر" فيوصف بألفاظ التغريب، والاستلاب والكفر والعلمانيّة أو اللائكيّة والفرانكفونية.
وبين هذين الطرفين المتناقضين يتموضع خطاب الأكثريّة عن طريق التآلف بقدر الإمكان. ومن هنا تندفع ازدواجية الخطاب وهي ازدواجية اضطرار ولا ازدواجية اختيار كما أسلفنا. وهذا السعي إلى التآلف والتقارب لا يتميّز به الحداثي دون الأصولي أو اليساري دون اليميني وإنّما يشترك فيه الجميع. لنأخذ مثلا حزب حركة النهضة. فهذا الحزب يتشبّث من ناحية بإسلاميّته ولكنّه يعدّلها من جهة أخرى بتقديم نفسه بأنّه حزب إسلاميّ حداثيّ، إسلاميّ ديمقراطيّ، شرعيّ مقاصديّ، مناصر لحقوق اللّه وحقوق الإنسان في الآن نفسه، أمّا أحزاب اليسار فإنّها تنتهج نفس المنهج  فتقرّ يساريّتها وعلمانيّتها وديمقراطيتها ودفاعها عن حقوق الإنسان الكونيّة من جهة وتعدّلها من جهة أخرى بقولها إنّها تقبل الإسلام الإصلاحي غير المتطرّف، وإنّها تعترف بفضيلة الفكر الإسلامي المستنير كفكر الشيخ محمّد عبده أو الشيخ الطاهر ابن عاشور أو الشيخ الخضربن حسين.
نستخلص من ذلك، أنّه ليس من فارق جوهريّ مطلق بين اليمين واليسار، كلاهما يتظاهر بتراث حضاريّ مشترك وهو في الآن نفسه تراث ذو مرجعيّة إسلاميّة حداثيّة يرمز إليها بوجوه دالّة، من التأريخ  البعيد والقريب، مثل الشاطبي وابن خلدون والخضر بن حسين والطاهر بن عاشور. فإذا تأملنا في الخطب السياسيّة سواء في مدّة الحكومة الانتقالية الأولى أو بعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر2011، يبدو لنا أنّها تجسّد بامتياز هذا التوجّه، أكانت صادرة عن الأستاذ الباجي قائد السبسي و خطبه بالآيات القرآنيّة منثورة، أم كانت صادرة عن الأستاذ راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة، أم عن الدكتور منضف المرزوقي، أم عن الأستاذ نجيب الشابي مؤسس الحزب التقدّمي الديمقراطي أم حتّى على الأستاذ شكري بالعيد الناطق الرسمي باسم حزب الوطنيين الديمقراطيين (الوطد).
نوات الذات من وراء الحجاب. التعامل والتّنافر.
إلاّ أنّ هذا الرصيد المشترك، في حقيقته، يخفي أغراضا ونوايا ومقاصد متباينة، وهي التي تشكّل نوات الذات من وراء الحجاب.

فالعامل الأول، المتمثّل في الرصيد المشترك، يدفع إلى العمل السياسي المشترك، وذلك بالتفاوض، والتوافق، والاتفاق، والائتلاف، والإعلانات المشتركة، والمساعي التوحيديّة بين الأحزاب. والأمثلة في هذا المعنى كثيرة. منها الميثاق الوطني لسنة 1988، والبيانات الصادرة عن "هيئة 18 أكتوبر2005 للحقوق والحرّيّات"، ابتداء من الّذكرى السنويّة الأولى لإضراب الجوع المشهور، وإحداث "المجلس الوطني لحماية الثورة" في 11 فيفري 2011، ثمّ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بالمرسوم عدد 6 المؤرخ قي 18 فيفري 2011، وإعلان المسار الانتقالي في 15 سبتمبر2011، وتشكيل الحكومة الائتلافيّة بين النهضة والتكتل والمؤتمر من أجل الجمهوريّة في ديسمبر 2011.
والملفت لللإنتباه في هذا الشأن، هو أنّ الدفع نحو التنازل والتآلف لبناء العمل المشترك  يبلغ ذروته في الظروف القصوى والشدائد التي، إن فشلت في محو نهائي للقوى المضادة له من قبل الحاكم، فإنّها تقوّيها و تشحذ عزائمها و تدفعها نحو المزيد من التّآزر. و أحسن مثال لذلك هو العمل التآلفي والمستقبلي الذي قامت به  "هيئة 18 أكتوبر 2005 للحقوق والحرّيّات" في أسلمة التيّار اليساري وأيسرة التيّار الإسلامي، حتّى إنه من الصحيح أن نقول إنّ آثار نصوص الهيئة و بياناتها امتدّت إلى حين الثورة وحتّى إلى ما بعد سنة كاملة من اندلاعها.
والمبادئ الأساسيّة التي تبلورت من خلال "منتدى 18 أكتوبر" و"هيئة 18 أكتبور للحقوق والحريّات"، بين الإسلاميين واليساريين والقوميين والليبراليين تتعلّق بركائز فكريّة، أهمّها إرساء عقد اجتماعيّ مبنيّ على النظام الديمقراطي والحقوق الأساسيّة الجماعيّة والفرديّة والمساواة بين الجنسين. ينصّ البيان الصّادر عن "هيئة 18 أكتوبر"  في  موضوع العلاقة بين الدولة والدين على ما يلي :"تلتزم هيئة 18 أكتوبر بالدفاع عن رؤية للعلاقة بين الدولة والدين والهويّة تنهل من التفاعل الخلاّق بين مقوّمات حضارتنا العربيّة الإسلاميّة ومكتسبات الإنسانيّة الحديثة، وخاصّة حقوق الإنسان والحريّات الجماعيّة والفرديّة باعتبارها شرطا أساسيّا من شروط التقدّم والتنمية والكرامة...". ثمّ يضيف البيان " إنّ الدولة الديمقراطيّة المنشودة لا يمكن أن تكون إلاّ دولة مدنيّة قائمة على مبادئ الجمهوريّة وحقوق الإنسان وتستمدّ مشروعيّتها من إرادة الشعب الذي يتولّى في إطار هذه المبادئ انتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها..." و في نفس السياق :"إنّ الممارسة السياسيّة هي اجتهاد بشري مهما كانت قناعات أصحابها ومعتقداتهم ممّا ينفي عنها أيّ شكل من أشكال القداسة ويجعل المجال السياسيّ فضاء حرّا للحوار والتنافس... إنّ من واجب الدولة الديمقراطيّة المنشودة إيلاء الإسلام منزلة خاصّة باعتباره دين غاليّة الشعب دون أيّ احتكار أو توظيف...".
ولا تكفي الإشارة إلى ذلك، بل يجب التعرّض إلى "البيان المتعلّق بحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين"، و هو نصّ تحرّري بامتياز، يدعو إلى تكريس حقوق المرأة، في سياق "حركة إصلاحيّة اجتهاديّة تنويريّة" و مواصلة الحوار حول المسائل الخلافيّة مثل المساواة في الإرث.
 و فيما يتعلّق بمدى هذه الأدبيات، جديدة الفحوى و المصطلح، والتي أثارت وقتها اعتراضات جمّة من مناضلي النهضة، علينا أن نسجّل آثارها القويّة و العميقة على مواقف الأحزاب سنة 2011 في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة، ثمّ  في الفترة الحاليّة بعدما حدّد حزب النّهضة، في 25 مارس 2012، موقفه النّهائي من مسألة الشريعة كمصدر أساسي من مصادر التشريع، مكتفيا بالفصل الأول من الدستور القديم :" تونس دولة حرّة، مستقلّـة، ذات سيـادة، الإسلام دينها و العربيّـة لغتهـا والجمهوريّـة نظامها". و لا شك في أنّ الأستاذ راشد الغنوشي و رفاقه الإسلاميّين الأحرار قاموا  بدور حاسم في تجديد مواقف النهضة منذ  2005.
 فالمفاهيم التي ترمز إليها كلمات "عقد اجتماعيّ"، "دولة مدنيّة"، "دولة ديمقراطيّة"، "حقوق الإنسان"، "حوار وتنافس"، تثري القاموس السياسي النهضوي  بحداثيّة مبتكرة، و الإشارات إلى  "إيلاء ألإسلام منزلة خاصّة باعتباره دين غاليّة الشعب..." وإلى "سياق حركة إصلاحيّة اجتهاديّة تنويريّة" تثري القاموس السياسي "العلماني" بتأسلم مبتكر بالأمثل، مع العلم أّنّ كل واحد يبقى على أصله. إّلا أنّه واضح أن التجاذبات بين "الأصل الأصيل" و"الجديد الدخيل" يضغط بأكثر قوّة على الاتجاه الإسلامي الذي يرى نفسه مجبرا، في المناخ العام التونسي، أن يقطع أكثر من غيره بين نواته الدينيّة وحداثيته. أمّا مواقف الحداثيين، فإنّها تتسم بأكثر استقرار و أقلّ تنازل.
والملاحظة التي أبديناها في تجميع قوى المعارضة "بفضل" الديكتاتوريّة، لهي جديرة لوصف الثورة ذاتها. فالثورة اندلعت جرّاء تجاوز جميع الخطوط الحمراء من قبل حكم أقلّ أوصافه ذلاّ أنّه قليل الذكاء السياسي، شديد الخرع، حسيء النظر، نهّاب، عذّاب، كذّاب، أشر.
كانت الثورة موحّدة الصفوف واضحة الرسالة في بُعدها التحديثي، حيث نادت، في سياق هيئة 18 أكتوبر، بالحقوق والحريّات والمساوات والديمقراطيّة، رافعة أحيانا شعار "اللائكيّة".
وإثر الثورة، أحدثت لجنة خبراء سمّيت  "لجنة الإصلاح السياسي" يوم 17 جانفي 2011  لتنقية المنظومة القانونيّة من شوائب الاستبداد ، ثمّ تكوّن "المجلس الوطني لحماية الثورة" في 11 فيفري 2011 تقريبا بنفس الذهنيّة التي أشرفت على هيئة 18 أكتوبر. وفي النهاية وبعد مفاوضات مضنية مع حكومة الغنوشي انتهى الأمر إلى إحداث "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" بمقتضى المرسوم عدد 6 المؤرخ في 18 فيفري 2011 و هو مزيج مشروعين ، الأول من "المجلس الوطني لحماية الثورة" و الثّاني من "لجنة الإصلاح السياسي" .
 أمّا الانتخابات، فلا ريب أنّها تشكّل تراجعا ما بالنسبة لمبادئ الثورة، لا بمعنى أنّها أفرزت حزبا ذا مرجعيّة دينيّة للحكم في البلاد، بل لأنّ العديد من القوى "الرجعيّة" شعرت بنوع من الإنماء والقوّة بمجرّد الانتصار الانتخابي لحزب النهضة. فتردّت مبادئ الثورة التحرريّة إلى تجارب وأفكار "رجعيّة"  لا ثوريّة، كارتداء النقاب، والبدلة السلفيّة الأفغانيّة، والحديث عن ختان الإناث، وعن الشريعة كمصدر أساسي أو الوحيد، حسب البعض، للتشريع. من ذلك نستخلص أنّ لحظتي الثورة و الانتخابات تمثّلان هذا الإستقطاب.
أما العامل الثاني فهو الذي يغذّي النزاعات والتصادم والمواجهة، حيث يرجع كلّ حزب أو خطاب إلى أصله النواتي. فإذا صدر شيء من قبل طرف من الأطراف، فإنّه يثير حينيّا ومباشرة ردّة فعل من الأطراف المعادية له في الاتجاهات الجوهريّة والنزاعات العميقة. بالنسبة للمواقف المثيرة للجدل والتجاذبات نذكر تصريحات السيّد راشد الغنّوشي حول إلغاء قانون التبنّي (1958) في حصّة "الصراحة راحة" على قناة حنّبعل يوم 29 أكتوبر 2011، ثمّ الخطاب الذي ألقاه بمدينة سوسة السيّد حمّادي الجبالي يوم 13 نوفمبر 2011  مستخدما مصطلحات وآليات خطابيّة دينيّة طوباوية متصادمة مباشرة مع مفاهيم الثقافة والدولة الحديثة مثل"الانتصار أمام الله" و"الخلافة الراشدة السادسة" و" الخطاب الربّاني" و "الإشارة الربّانيّة" و "اللحظة الربّانيّة" ، ممّا أثار ضجّة صحافيّة وإعلاميّة  تزاحمت فيها علامات النقد السياسي و تلك الحاملة لمعاني السخرية. أضف تصريحات السيّدة سعاد بن عبد الرحيم حول الأمهات العازبات في 8  نوفمبر 2011 على إذاعة مونتكارلو الدوليّة بالعربيّة التي أُوّلت و لعلّها هُوّلت فأثارت ردود فعل شتّى و بالخاصة تلك الصادرة عن جمعيّة النساء الديمقراطيّات، ومسألة الزواج العرفي، ويوم الاثنين 23  جافني موقف السيّد صادق شورو عضو المجلس التأسيسي إزاء الاعتصامات وقطع الطرق مستنجدا بآية الحرابة (الآية 33 من سورة المائدة)، وفوق كلّ شيء مسألة الشريعة كمصدر أساسي لمصادر التشريع الوارد في الفصل العاشر من مشروع الدستور المنسوب إلى حركة النهضة والذي وقع ترويجه  في نهاية شهر جانفي.
 أمّا بالنسبة للمواجهات والتظاهرات التي أثارتها القضايا المشار إليها سابقا سوف نخصّ بالذكر المظاهرات المتزامنة والمتضادة بين الإسلاميين و اللائيكيّين يوم 3  ديسمبر  2011 أمام المجلس الوطني التاسيسي، وقضيّة القناة التلفزيّة "نسمة" بعد بثّ الشريط الكرتوني "برسابوليس" يوم الجمعة 7 أكتوبر 2011، وما أثارته من تظاهرات للأصوليين السلفيين ابتداء من 9 أكتوبر استنكارا لتمثيل الذات الإلهيّة، وفي نفس السّياق قيام دعوى قضائيّة  جزائيّة من قبل مجموعة من المحامين ضدّ مدير القناة نبيل القروي أجّلت إلى يوم 23 جافي 2012 فاحتشد بالمناسبة السلفيين أمام  قصر العدالة و داخله مناصرو حرّيّة الفن و التعبير بحضور الأستاذ الباجي قائد السبسي، ثمّ المسيرة الضخمة يوم 28 جانفي للدفاع عن الحرّيات و بالخاصة حريّة الإعلام،  ثمّ المظاهرة الذي نظمها أنصار الشريعة أمام قصر باردو يوم الجمعة 16 مارس 2012 والمسيرة الضخمة التي نظمتها الأحزاب والحركات الديمقراطيّة القريبة من "العلمنة" يوم 20 مارس 2012 بشارع الحبيب بورقيبة، و"مهرجان نداء الوطن" الذي نظمته الجمعيّة الوطنيّة للفكر البورقيبي بالمنستير يوم السبت 24 مارس 2012 والمظاهرة السلفيّة التي نظمت يوم الأحد 25 مارس 2012 .
نموذج حكومة الإسلام الحداثي
هذه الظواهر التي تطوّرت من بداية سنة 2012 نحو تصاعد متزايد أدّت أحيانا إلى استعمال العنف الذي برزت فيه مجموعات "السلفيين" و بزّوا غيرهم في هذا الصنيع.
وفي هذا الصدد نذكر الاعتداء على قاعة أفريكارت بمناسبة عرض  جمعيّة  "لمّ الشمل" شريط نادية هاني "لا الله و لا سيّد" يوم 26 جوان 2011، والتهجّم على منزل السيّد نبيل القروي يوم 14 أكتوبر 2011، بعد بثّ برسابوليس على قناة نسمة، والاعتداء على الصحافي سفيان بن حميدة، ثمّ الاعتداء على الصحافي زياد كريشان والأستاذ حمّادي الرديسي  يوم 23 جافي 2012  الّذي كان سببا أساسيّا لتنظيم مسيرة 28 جانفي، وقضيّة المنقّّبات بجامعة سوسة، ثمّ بالمركّب الجامعي بمنّوبة ابتداء من 28 نوفمبر2011 وعلى مدى الأشهر المواليّة، كما أنّها تمثّلت في تنكيس العلم الوطني بجامعة منوبة يوم 8 مارس 2012 وادراجه تحت الراية السوداء الحاملة ألفاظ "اللّه" و"محمّد" والتي أثارت ردّة فعل الطالبة خولة الرشيدي، ممّا جعل من هذه بطلة الوقت و رمز الوطنيّة مستحقّة التكريم والتبجيل من الجميع، فالتوسيم أثناء الحفل الذي نظمه رئيس الجمهوريّة بقصر قرطاج يوم 14 مارس 2012 . و من بين مظاهر العنف السلفي، الاعتداء على المسرحيين و الفنّانين المحتفلين باليوم العالمي للمسرح يوم الاحد 25 مارس. ولكن أخطر ظاهرة شاهدناها في هذا السياق، تتمثّل في حوادث  معتمديّة بئر علي بن خليفة بولاية صفاقس في بداية شهر فيفري 2012، حيث قامت مجموعة من السلفيين الجهاديين بمواجهة مباشرة مسلّحة  مع قوات الأمن والجيش الوطني، ممّا خلّّد هلاك  شخصين من جهة الإرهابيين والقبض على ثالث.  وجدير بالذكر أنّ جموع من السلفيين تظاهروا بعد هذه الحوادث طالبين سراح من وقع اعتقاله من المشبوه فيهم في عمليّة بئر علي بن خليفة.     
وتبعا لتحرّك هذه المجموعات ستكون حكومة "الإسلام النّهضوي الحداثي"، إن استمرّت واستقرّت في الحكم، مجبرة على ملاحقة جناحها الأيمن من ذوي المرجعية الإسلاميّة المتطرّفة، كما كانت الدولة البورقيبيّة تلاحق جناحها الأيسر. وقد تكون هذه الملاحقة إمّا بأسلوب الإدماج وإمّا بأسلوب القانون و تراتيب الدولة وإمّا عن طريق المحاكمة والعنف الشرعي. فالجناح المتطرف قد يهدّد استقرار الدولة و هيبتها، و ذلك هو شأن معركة المساجد التي انتزعتها بعض المجموعات السّلفيّة، إثر الثورة و بعد الانتخابات، و ذلك بإنزال الأئمة الرسميين و تعويضهم بمن يواليهم من الأئمة و تغيير مظهر المساجد أو أثاثها، و هو أيضا شأن "غزواتهم" التخريبيّة على ضرائح الأولياء[2] أو تهديداتهم على الكتبيّات التي تعرض على رفوف واجهاتهم الزجاجيّة كتبا ذات الغلافات الفنيّة الإباحية، حسب تقديرهم، أو نداء بعضهم بقتل اليهودفي مناسبات متكرّرة أو تهجّماتهم على المقابر والمعبد المسيحي الإرتودكسي وتدنيسها في مارس 2012. والمدهش في الأمر أنّ السلطة لم تحرّك ساكنا في هذه المناسبات، مما جعل البعض يتّهمها بالطواطئ.
إلا أنّ هذه العمليات فرضت على السلطة أن تعلن عن نيّتها لاسترداد نفوذها  شيئا فشيئا وأن تذكّّر مثلا أنّ تعيين الأئمة  يتمّ "بتكليف من وزارة الشؤون الدينيّة و لا يحقّ لأي طرف سواها التدخّل في هذا الشأن  بالعزل أو التنصيب أو التغيير ..."[3]. وبهذه المناسبة تهاطل الكثير من النّاس بالتّهم على المسؤول الغائب الذي قام بتصفيّة المنظومة الزيتونيّة وعلمائها، والبعض منهم طالب إحياء الزيتونة لمقاومة التطرّف.
لكنّنا نعلم أنّه إذا تجاوز هذا الجناح  المتطرّف الحدود التي يفرضها النّظام العام والمناخ الديمقراطي  وبالخاصّة  مبدأ عدم اللجوء إلى العنف مبدئيّا و عمليّا، فستكون الدولة مضطرّة على استعمال قوّة القانون، أي العنف الشرعي، طال الوقت أو قصر. وقد أشار وزير الداخليّة علي العريّض في حديث لجريدة "لو موند" الفرنسية يوم 20 مارس 2012 إلى أنّ الدولة على وشك مواجهة حاسمة مع السّلافيين الجهاديين .
إنّ حكومة "الإسلام النّهضوي الحداثي" حينئذ، وفي نهاية الأمر، سوف تدخل في صراع سلمي أو في تآلفات تكتيكيّة مع منافسيها العاديّين من ذوي النزعات العلمانيّة الليبرالية أو القوميّة آو الاشتراكية.  ولكنّها سوف تتعامل بنفس المناهج مع المجموعات السّلميّة المنشقّّة والتي تنصهر في نفس التيّار الفكري والعقيدي كحزب التحرير. فلا ننسى أنّ حزب التحرير، من برج اوطوبياته الفكرية حول الخلافة و الكفّار المستعمرين و غلّ النفس ب"ما أنزل الله" ، يقف وقفة احتراز و تيقّض  تجاه البراغماطيّة السياسية لحكومة الإسلام الحداثي، و قد أظهر ذلك في بيانه الصادر في بداية فيفري 2012، يتّهم  فيه الحكومة بأنّها الرازحة "تحت أقدام الكفّار المستعمرين"، وأنّها الجاعلة القرآن و الإسلام وراء ظهرها، و أنّها اللامباليّة بشؤون المسلمين[4]. و قد أعاد الكرّة في الاتهام و التجريح قي أواخر مارس 2012 بمناسبة قرار الهيئة التأسيسيّة للنهضة المتعلّق بعدم التنصيص في الدستور الجديد على الشريعة كمصدر التشريع.
أمّا بالنّسبة للمتطرّفين و بالخاصة الجهاديين الذين قد  يدفعون البلاد إلى حرب اهليّة، حسب ما صرّح به الأستاذ راشد الغنوشي يوم 28 مارس 2012 لإذاعة شمس فم،  فستكون مضطرة لاستخدام وسائل النّظام العام و القانون الزجري.
و قد لخّصنا هذه العوامل في الجدول التابع.







نموذج حكومة الإسلام الحداثي

السلفيون الجهاديون
مواجهة.
قمع. محاكمات.
السلفية غير الجهادية. تفاوض.
مواجهة. هيبة الدولة.
حزب التحرير إدماج. مكافحة
الدولة
حزب النهضة وحلفاؤه

القوى الديمفراطية تحالف. معارضة.

القوى اليساريّة تحالف. مكافحة.


القطب الإســلامي

القطب الديمقراطي الحداثي











خاتمــة
لقد بيّنّا في هذا المقال إنّ العنصر القارّ الذي هيمن سابقا على الحياة السياسيّة والاجتماعية التونسيّة مازال يهيمن اليوم. ويتمثّل هذا العنصر كما أسلفنا في الاستقطاب الثنائي المسيطرعلى جميع مستويات الحياة الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة في بلادنا.
إلاّ أنّ لحظة الثورة وبعدها المرحلة الانتخابيّة التي دفعت بحزب النهضة إلى سدّة الحكم أدخلتا بلادنا في ظلّ نموذج جديد تماما يتّسم بالعوامل الآتي ذكرها:
أولا: رغم أنّ لحظتي الثورة و الانتخابات تشكّل  تمثّيلا للاستقطاب، كما أشرنا سابقا، تسير البلاد شيئا فشيئا نحو نقطة توازن بين الصراعات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة وتذليل حدّة مظاهر التزاحم والتضارب بينها، وهذا التوازن الذي نحن بصدد التمشي إليه يتمثل في ما أسميناه سابقا أسلمة اليسار وأيسرة الإسلام السيّاسي، أو بعبارة أخرى تحديث الاسلام وتأسلم الحداثة. و لعلّ ذلك بداية نهاية الاستقطاب الإزدواجي. إن فهمت النهضة، كما يفهمه زعيمها راشد الغنوشي و الفريق القيادي الحداثي  بالهيئة التأسيسيّة، أنّه من واجبها أن تعضّ على هذه المسؤوليّة التاريخية دون هوادة، نجحت. أمّا إذا ارتجحت أو تأخّرت، فستتشدّد الأزمة ومن يعلم عقباها ؟
ثانيا: تبرز هذه الظاهرة على المستوى السياسي في الكفاح المشترك الذي عاشته الأحزاب اليساريّة والإسلامية في عهد الديكتاتورية التي كانت هي العنصر الذي غذّى المساعي التوحيديّة التي أقيمت من هنا وهناك ودعّمتها. و هي تتواصل اليوم بعد تشكيل الحكومة الائتلافية  النهضويّة، كما أبرزته قضيّة التنصيص على الشريعة في الدستور. 
 ثالثا: إنّ نموذج حكومة الإسلام الحداثي يضع مركزها النهضوي في موضع حرج. إذا أظهر التّسامح نحو حراك جناحه الأيمن، فسرعان ما يتّهم بالتراخي المقصود نحو حليف موضوعي و بالتزلّف إليه لاستغلاله عند الحاجة، حتّى أنّه قيل إنّ السلفيين هم العضد المسلّح للدولة النهضويّة. أما إذا شدّ، فسيرشق حتما بالخيانة من قبل "الإخوان والأبناء"، دون تحصّن ثابت من تهمة القمع و رجوع "بن علي والبوليس والتجمع" من قبل الأعداء. 
رابعا: نشاهد في الخطاب السياسي الإسلامي بجانب التحديث والأيسرة عوامل أخرى تتعلّق بتونسة الفكر الديني ورفض الأفكار والدعايات المستوردة والآتية من الشرق، والتي أرادت أن تصبغ الفكر الديني في تونس بعوامل ترجع إلى الفكر السلفي المتطرّف. تمثّلت هذه الحركيّة السلفيّة الشرقيّة في الزيارة الذي قام بها الداعي المصري وجدي غنيم من 11 فيفري 2011 والتي أثارت، بجانب المناصرة المشهودة، ردود فعل قويّة من الطيف السياسي التونسي. وفي هذا السياق صرّح الأستاذ راشد الغنوشي، رئيس حزب حركة النهضة بشجاعة ملحوظة يوم 28 مارس 2012 أنّ هذه التيّارات الغريبة عن المناخ التونسي وتقاليد أهاليها الثقافيّة والدينيّة هبّت على البلاد "كالريح من الشبّاك"، وكأنّه يومئ بذلك إلى أنّه من صالح التونسيين أن يغلقوا النافذة للحيلولة دون زفيف الأرياح الكريهة.
خامسا: طيلة تاريخه الطويل، بقي الاسلام سجين مفهوم جامد للعلاقة بين الدولة والدين، مستقرّ على أنّ الاسلام "دين مدنيّ"، معناه أنّه يرفض أصلا فصل الدين عن الشؤون الاجتماعيّة، ممّا يجرّه حتما إلى رفض فصل السياسة عن الدين، وفصل الدين عن التشريع. ورغم أنّ هذا المفهوم تصدّر المنظومة الذهنيّة والعقائدية على المستوى المبدئ، إلاّ أنه بقي كاليتيم المنبوذ تجاه العوامل المضادّة التي باتت تزاحمه من أول تاريخ الاسلام. فصارت الخلافة إمبراطوريات وسلطنات وإمارات، وصار الشرع  تشريعا حرّا، واتّسع الفقه إلى الأعمال و الأعراف، وحكم الضرورة، والاستصلاح عند المالكيّة، والصالح العام عند الطوفي، و والرأي و الحيل الشرعيّة عند الحنفيّة. وفي خضمّ التناقض بين النّظر و العمل، تحت ضغط هذه العقلية المدنيّة من جهة والضرورات من جهة أخرى، بات الاسلام يعيش في نوع من السكيزوفرانيا، يفعل ما لا ينوي، ويقول ما لا يفعل ويفكّر ما لا يقول. ولا أحد، إلا ما قلّ ونذر، بإمكانه أن يتجرّأ عن الإفصاح عن الحقيقة كما هي دون مماذقة، كلّهم يفضلون العيش في عالم الأهواس عن العيش في دنيا الحقائق والأمانة الفكريّة.
فالثورة الفكرية التي يتعيّن على الإسلام أن يقتدي بها تتمثّل في القطع مع هذا المفهوم قطعا مبدئيّا يصالح، في الاسلام، بين النظروالعمل، وبين الرؤية والتجربة.
 إنتُهي من تحريره في 4 أفريل 2012.


[1] مثل التركيبة الطبقيّة، نسبة البطالة ،الاستثمار الاقتصادي، ...
[2] مثلا في آخر مارس2012  على مقام الولي سيدي احمد عصيلة الغربي
[3] بلاغ وزارة الشؤون الدينيّة،  المغرب" 1 أفريل 2012، ص 14.
[4] نشر ب"التونسيّة" يوم الأحد5 فيفري2012 ص 6.

1 commentaire:

  1. سيّد عياض بن عاشور أشكرك على المقال و هو في مجمله طيّب
    و لكن لقد أثرت عديد نقاط الإستفهام و الفرضيّات التي لا تندرج ضمن آليّات التحليل السياسي.
    لقد غادر الرّئيس السابق تحت ضغوطات أمريكية ممزوج بإنقلاب عسكري أقل تونسي يعرف أنه لمّا زار المخلوع أمريكا سنة 2006
    وبّخه بوش الإبن على الملأ و طالبه بمزيد الإنفتاح في العملية السياسية كما كانت زيارة كوندليزا رايس إلى تونس سنة 2008 تحمل في طيّاتها مشروع تغيير و اللقاء لم يكن ودّي بالمرّة.
    و طبعا بالنسبة للفرضيّتين الثانيتين أستطيع أن أجيبك لو لم يهرب الرّئيس السابق أو لو عاد بعد ثلاثة أيّام أو أسبوع لكان مصيره مثل حسني مبارك أو عبد الله صالح أو معمّر القذّافي أو إقالته بإنقلاب عسكري.
    بالنسبة لموضوع علاقة الدّين بالدولة أو الإسلام بالدولة ليس بموضوع جديد لقد تحدثوا فيه المفكّرين و الفلاسفة و السياسيين أكثر من اللزوم
    كما إكتفيت بسرد بعض الأحداث و الوقائع بدون رؤية تحليلية و نظرة ثاقبة متجاهلا دور الأجهزة الإستخباراتية من الدّاخل و الخارج و دور رؤوس الأموال المحلّية و محاولتهم تدجين و إختراق المؤسسة النقابية.
    سيّد عياض الشعب التونسي و الشعوب العربية و المسلمين لسنا حالة إستثنائية أو مخلوقات فضائية من كوكب آخر كل المشاكل التي نعيشها موجودة في كلّ العالم تقريبا, في أمريكا هناك أحزاب دينية يمينية و متطرفة أيضا و حزب جورج بوش الأب و الإبن ينتمي إلى أقصى اليمين.
    في فرنسا أيضا هناك مدارس و معاهد دينية أيضا...
    أيضا أي دولة تنتهج سياسة إقتصاد السوق طبيعي أن يتحالف رؤوس الأموال و الحكومة من الطبيعي أن تتصادم و تتصارع مع القوى اليسارية و النقابة وهو ما حصل في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية و حتّى ستّينات القرن الماضي.
    إن مختلف المراكمات و التجارب و الخبرات الإنسانية تجعلنا نستنتج
    أن الصيرورة التاريخية للدول و الشعوب تخضع إلى قوانين ثابتة لا مجال للتخمين أو الفرضيّات فيها لأن التاريخ دائمًا يعيد نفسه.

    RépondreSupprimer